صمتوا، وحسناً أنهم صمتوا، فكما أن نوم الظالم عبادة، فإن صمت المنافق رحمة، وإن كان هذا الصمت يأتي مدفوعاً بالخجل، وهي خصلة حميدة، وهي خير لنا من أن يجهروا بالمعصية، فضلاً عما يمثله انزواء فضيلة الحجل من عالم البشر، فإذا انتزع الحياء من الأرض فانتظر الساعة!.
أقصد بهؤلاء الذين شكلوا "فرقة حسب الله"، وعزفوا نشيد الصباح منذ الانقلاب على الشرعية في مصر، وقدموا الفريق أول عبد الفتاح السيسي على أنه جمال عبد الناصر، الذي جاء على قدر ليعيد أمجاد الزعيم الخالد، وقد تُوج هذا الكلام بتصريح لنجل الرئيس الراحل "عبد الحكيم"، الذي ظن بحكم قرابة الدرجة الأولى التي تربطه بعبد الناصر، أن بيده منح الصكوك ونزعها، حيث كانت آخر "وصلة" له على هذا المسرح الغنائي، تتمثل في قوله إن الفريق عبد الفتاح السيسي هو الوريث الوحيد لجمال عبد الناصر!.
لقد كتبت هنا عن الاستدعاء القسري لعبد الناصر، وإعادة استنساخه لإسباغ شرعية على وضع غير شرعي، وتسهيل مهمة الفريق السيسي في حكم البلاد، وكنت على قناعة تامة بأن القوم يكذبون، ويعلمون أنهم يكذبون، وأنهم يمارسون الدعارة السياسية مع سبق الإصرار والترصد، فعبد الناصر ليس مجرد بدلة عسكرية وبيادة، وإلا لوجب عليهم تأييد السادات وقد كان كما عبد الناصر ضابطاً في الجيش. ولدافعوا عن حسني مبارك باعتباره كان ضابطاً أيضاً، ثم إنه في أزمة مارس الشهيرة هناك بيادة سحقت بيادة، وانتهى المطاف بالرئيس (اللواء) محمد نجيب مسجوناً في بيته، على يد الرئيس (البكباشي) جمال عبد الناصر، تماماً كما قام مبارك بسجن أحد قادة انتصار أكتوبر، وهو الفريق سعد الدين الشاذلي، ولم نسمع اعتراضاً من قبل القيادة العسكرية الحالية على هذا التصرف، بمن فيهم السيسي نفسه!.
ولنا أن نعلم أن ثورة يوليو سنة 1952م، وهي مِن فِعل أصحاب البيادات، قامت بحصار أصحاب البيادات أيضاً، وروى لي أبو الفضل الجيزاوي أحد الضباط الأحرار، كيف أن أحد الضباط الشبان وهو مصطفى كامل مراد، حمل مدفعاً رشاشاً في ليلة الثورة في وجه قيادات الجيش، بغية تصفيتهم. ثم حدث حصار سلاح الفرسان، المتمرد على سلطة عبد الناصر، على نحو كاشف عن أن اختزال وجه الشبه بين عبد الناصر والسيسي في البيادة، فيه تبسيط مخل للأمور!.
ما علينا، فلم يكن يساورني الشك لحظة بأن التعامل مع الفريق السيسي على أنه يمثل عودة لزمن عبد الناصر الجميل، يدخل في باب النفاق، ونحن لدينا طائفة من الناصريين لديهم استعداد فطري، لأن يتاجروا بكل القيم، بحثاً عن حظوظ الحياة الدنيا، وان مثل هذا إساءة لعبد الناصر نفسه، كما لا أعتقد أن الروائي علاء الأسواني، كان جاداً وهو يؤكد للكاتب البريطاني روبرت فيسك أن السيسي كأيزنهاور، وأنه أفضل قائد عسكري منذ أيزنهاور!.
في أيام النشأة والتكوين، وفي فترة الجلوس على مقاهي وسط البلد المتواضعة (لا تزال محلي المختار إلى الآن)، حيث شعار كل إنسان يحاسب لنفسه، كان الأسواني يشاركنا الانشغال بقضية الحرية، وكان الرأي منصباً على أنه لا يمكن إقامة حكم ديمقراطي في ظل سيطرة المؤسسة العسكرية، لكن لم أكن أعلم أنه يوجد بين ظهرانينا من لديهم استعداد للتخلي عن القيم التي آمنوا بها، للكيد للآخرين!.
فهل هذه هي قناعة الأسواني نفسه، أم أنه أراد أن يدخل على روبرت فيسك الغش والتدليس، ليصدق دعاية صاحبنا، انتقاماً من الإخوان؟!
أيزنهاور، كان قائداً عسكرياً خلال الحرب العالمية الثانية، وقد شغل منصب القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا، وأنهى حرب كوريا، وأعاد تنظيم ميزانية الدفاع في اتجاه الأسلحة النووية، وأطلق سباق الفضاء ووسع نظام الضمان الاجتماعي!.
ومع هذا فهو صاحب مقولة: "إن كل بندقية تصنع، وكل سفينة حربية تدشن، وكل صاروخ يطلق، هو في الحسابات الأخيرة عملية سرقة للقمة العيش من فم الجياع ومن أجساد الذين يرتجفون من شدة البرد ويحتاجون إلى الكساء"
أيزنهاور كان في الحرب قائداً جباراً، والفريق السيسي لم يخض حرباً قط، وأيزنهاور لم ينقلب على الحكم ويختطف الرئيس المنتخب، فقد أصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية بعد التقاعد بعامين، ولم يقم بتغييب الرأي الآخر، ويعصف بالحريات، وهي القيمة التي كانت تشغل علاء الأسواني، في زمن كل إنسان يحاسب لنفسه!.
ولا أظن أن علاء الأسواني كان يجهل كل هذا وهو يتحدث لروبرت فيسك، تماماً كما لم يساورني شك، في أن الذين نصبوا الأفراح وعلقوا الزينات ابتهاجاً بعودة جمال عبد الناصر، كانوا يكذبون!.
وقد صمتوا الآن صمت القبور، بعد أن تبين للجميع، أن أطرافاً خارجية من بينها البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي، ضالعان في الانقلاب، وأن إسرائيل نفسها رحبت بهذا الانقلاب الذي حقق لها تعاوناً أمنياً مع الجانب المصري في أعلى معدلاته بالمقارنة بفترة حسني مبارك، وعلى حد تعبير قادة إسرائيل!.
وكانت الكارثة، في استعانة قادة الانقلاب بشركة علاقات عامة في واشنطن لتسويق الانقلاب، وهي شركة يديرها ضابط إسرائيلي، عمل في جيش الاحتلال، وتخرج في جامعة تل أبيت، وهي شركة لها علاقات واسعة بإسرائيل، وباللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، وكبار المسؤولين عن هذه الشركة عملوا في منظمة "إيباك" وهي منظمة يهودية أمريكية في الولايات المتحدة الأمريكية!.
ولا أظن هذه الانحيازات، التي أنتجت هذا التعاقد، تجعل للرجل أدنى صلة بالرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان عدواً لإسرائيل وأمريكا، فهل يستويان مثلا؟!.
هل نلوم السيسي، لأنه لم يكن على مستوى الآمال التي تعلقت به، أم نلوم هؤلاء الذين أدخلوا الغش والتدليس على الرأي العام، وهم يعلمون أنهم يكذبون؟!.
السيسي لم يقدم نفسه للرأي العام، ولا تعرف له توجهًا فكريًا، كما لا نعرف له توجهًا سياسيًا، ولا نعرف له كذلك انتماءً أيديولوجيًا!.
في أيام مرسي قالوا عنه إنه إخوان، وبعد الانقلاب هم أنفسهم من قالوا عنه إنه عبد الناصر، وأيزنهاور، وديجول، وهو لم يقل شيئاً من هذا.
والسيسي لم يعلن برنامجاً سياسياً، ولم يقل لنا ما هي الصيغة المعتمدة لديه للحكم، ولم نضبطه متلبساً يوماً بإبداء وجهة نظر في الصراع العربي الإسرائيلي، أو الهيمنة الأمريكية، ولم يقل لنا أن عبد الناصر يمثل له أي قيمة من أي نوع!
لقد ترك الآخرين يقدمونه ولم يقدم نفسه، ولا أظن أنه بقادر على القول، مجرد القول، بعيداً عن السياسات، ان عبد الناصر زعيمه، أو انه قدوته، أو انه مثله الأعلى، أو انه حلم يوماً أن يكون عبد الناصر.
لقد ذكروني بحلقة الذكر التي نصبوها للراحل أسامة أنور عكاشة، بعد نجاح بعض مسلسلاته، لقد قالوا إنه ناصري، وتركهم الرجل يقولون، ويرّوجون له، ثم كان كمن صبّ عليهم ماءً مُثلجاً عندما قال إنه ساداتي، ووفدي، ولم يكن ناصرياً يوماً، فبُهت من ادّعى!.
السيسي يستفيد من الدعاية له بأنه عبد الناصر، دون أن يدفع ضريبة ذلك، فلن ترضى عنه إسرائيل، أو أمريكا، أو الاتحاد الأوروبي، إن قال هذا ولو من باب الدعاية الانتخابية.
لقد صمتت فرقة حسب الله الآن، بعد أن تبيّن للناس الرشد من الغيّ، مع أن الواجب الوطني يحتّم عليهم أن يعترفوا أن عبد الناصر لم يبعث من جديد ولكن شُبّه لهم.
بيد أن هؤلاء مجرد تجار بقميص عبد الناصر ليس إلا، فلم يكونوا "مختومين على أقفيتهم" وهم يقولون ما يقولون.
كاتب وصحفي مصري