في مهنة الصحافة، نُعلّم الصحفيين، أنه من المهم التركيز على ما نسميه "وش القفص".. وهو تعبير نستعيره من "شطارة" التجار في "سوق الخضار".والمقصود به أن نضع أكثر الأخبار قدرة على لفت انتباه الرأي العام، في الثلث الأعلى من الصفحة الأولى في الصحيفة. ويبدو لي أن من سوء حظ المصريين، أن أسوأ، ما لديهم من "بضاعة" هي الموجودة الآن، على "وش القفص".. أنظر حولك، وتأمل حال التعليم والصحة والإعلام والصحافة والسياسة، وما شابه، لتعرف معنى ما أقصده.المنقول من "السلف" إلى "الخلف"، أن "مصر هبة النيل"!.. وهي لافتة ـ ظلت في رأيي ـ غير صحيحة..لأنها في واقع الحال، انتصرت لـ"الطبيعة الجامدة" وأهدرت قيمة "الإنسان المصري".. لم تكن مصر في تاريخها كله، "هبة النيل" وإنما "هبة المصريين".. إذ يكتسب "النيل" قيمته، من العقل المصري المبدع.؟! الجغرافيا ربما تكون قد منحت مصر "الأهمية الإقليمية".. ولكن تلك تختلف تماما عن "الريادة الإنسانية" التي ظلت مصر حاملة لوائها إلى عهد قريب، بسبب "رسالتها الحضارية".. الأولى خُلّقت من "الطبيعة".. والثانية توهجت داخل محاضن العقل الجمعي المصري المبدع عبر تاريخه الطويل.النيل كان موجودا أيام عبد الناصر ـ وكان موجودا قبله ـ ولم يجف في عهدي السادات ومبارك من بعده.. ولا يزال يجري ولم يتوقف تدفقه يوما ما.. ومع ذلك تغيرت مصر: من بلد صنع تاريخه بنفسه، واكتشف أهميته الجغرافية وقدمها للعالم في عهد "الأول ـ ناصر".. إلى أن خرج من التاريخ ومن الجغرافيا في عهد "الأخير ـ مبارك". مصر الآن.. يراها العالم من "وش القفص" الذي استولت عليه أسوأ ما أنتجت مصر من قيادات مهنية وسياسية وعلمية واجتماعية وإعلامية، لم تأت عبر "فلاتر" تعتمد على الموهية والكفاءة والشفافية.. وإنما عبر معايير أمنية "الولاء السياسي" .. وأيديولوجية "الشللية".. وعبر عمليات فساد مالي واسع النطاق "الواسطة والرشوة".. وهي كلها قيادات تحمل عداءا شديد التطرف، لقوى الإبداع والإصلاح المحشورة في وسط وقاع "القفص".. وتكابد عذابات التمهيش والإقصاء والسحق والقمع الإداري والمهني والأمني و"الدهس" تحت أحذية من استولوا على "وش القفص". "وش القفص".. ظل في مصر معوقا للتغيير وللإصلاح ومؤيدا وداعما وحارسا على فساد السلطة، لأنه ـ في واقع الحال ـ وليد فساد مؤسساتها الإدارية والأمنية والمالية.. والمفارقة المؤلمة ـ هنا ـ أن ثورة يناير كانت إبداعا خالصا لمن في "قاع القفص".. من شباب الطبقات الاجتماعية المهمشة والمسحوقة.. الباحثين عن العيش والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.. غير أن ذات الطبقة المخملية الفاسدة التي خُلّقت في محاضن مبارك الأمنية، عادت لتستولي على "وش القفص"!!.. وعاد المبدعون الحقيقيون من شباب الثورة إلى "القاع" مجددا، عرضة للدهس والإذلال تحت أحذية الباشاوات الجدد في قصور السلطة!!فالنيل والطبيعة والجغرافيا.. أبرياء من كل هذه الجرائم .. فمصر الجديدة هي "هبة" الفساد والشللية المتصدرة المشهد العام المصري منذ ثلاث عقود خلت. Almesryoonmahmod@gmail.com