اليسار في مصر مهنة، قبل أن يكون توجهاً أيديولوجياً. تفتح له السلطة الأبواب فيثبت الولاء، وتغلقها في وجهه، فيقف علي باب القبول، منتظراً، وقد يتمرد أو يعارض، لكنه في النهاية يستهدف أن يتم النظر إليه بعين العطف والرعاية!
يعمل اليساري سياسياً، فإذا وجد تمويلاً أجنبياً قدم نفسه علي أنه حقوقي، فإذا وجد الزمن زمن الناشط السياسي، عاد سياسياً كما كان أول مرة. وفي مصر أم الدنيا قد تجد صعوبة شديدة في أن تعد اليساريين الذين لم يلبسوا يساريتهم بظلم. فتذكر (الراحل) أحمد نبيل الهلالي، ثم تنتظر برهة قبل أن تتذكر (الراحل) أيضاً محمد السيد سعيد، وقد تظل الليل كله تعد النجوم قبل أن تعثر على اسم ثالث من ذات الفصيلة يؤنس وحدتهما في المقابر!
في نهاية الأسبوع الماضي، كنا أمام مشهد بائس لليسار المصري بتنويعاته، وهو الخاص بالمؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه ثلاثي أضواء المسرح تقرير لجنة تقصي الحقائق حول مجزرة رابعة. وهي اللجنة المكلفة من قبل القتلة بهذه المهمة!
كانت دولة عبد الناصر ممثلة بواحد من وزرائها وهو محمد فائق، وبأحد الناصريين الذين جاؤوا بعد انتهاء دولته يطالبون بعودتها، هو ناصر أمين، السياسي الأسبق، والحقوقي السابق، والسياسي الآن. وكان يجلس بجانبهما أحد الشيوعيين الذين عاشوا في كنف دولة عبد الناصر، فقربهم حيناً وأبعدهم حيناً، وكانوا في قربهم وبعدهم لا يتصورون أمانهم العاطفي بعيداً عن الدولة الغاشمة، فلما رأي من عاش منهم إلى الآن عبد الفتاح السيسي بعد عمر من الحرمان هتف: هذا ربي هذا أكبر!
أقصد به عبد الغفار شكر، وهو الرجل الذي كان أكثر استقامة من غيره في زمن مبارك، لكن بعيداً عن المعيار العاطفي، ففي الوقت الذي كان أكثر قرباً من معارضي مبارك من التيارات المختلفة، كان مرؤوساً حزبياً لرفعت السعيد الذي باع اليسار المصري لنظام مبارك الفاسد، فلم يعترض ولم يتململ، وظن أنه في طهر من الجنابة السياسية، ما دام لم يقع بشخصه في الغائط.
وتبدو لي المشكلة الآن، والقوم يهرولون في اتجاه العسكر، أن نظام مبارك كان مكتفياً بما لديه من أهل اليسار، ولم يكن بحاجة للمزيد، لأجل هذا فقد حال دون صعودهم الطبقي، وإذا كان قد قيل أن الرجاء عبد وأن اليأس حر، فقد دفعهم اليأس للانحياز للمعارضة المطالبة بإسقاط حكم العسكر، ورفض الشمولية. فهل كانوا بداخلهم ضد حكم العسكر.. وضد الاستبداد؟!
عبد الغفار شكر وقع عليه الاختيار في عهد الرئيس محمد مرسي في موقعه الحالي بالمجلس القومي لحقوق الإنسان، لكن عندما بدأت المؤامرة على حكمه، وتشكلت جبهة الإنقاذ التي استدعت العسكر للقيام بانقلاب على إرادة الجماهير في وقت لاحق، استقال في وقت كان المجلس يقوم بمهامه على خير وجه ولم يطعن وهو المستقيل في الأداء المهني لهذا المجلس.
وشتان بين اختيار واختيار. في الاختيار الأول كان مجلس الشورى المنتخب قد وفر غطاء شعبياً لعملية تشكيل المجلس القومي لحقوق الإنسان. وفي الاختيار الأخير فإن من شكل المجلس هو الرئيس المعين بقرار من وزير الدفاع، ولا أظنه يعرف عبد الغفار شكر، وناصر أمين، ومحمد فائق، ليختارهم، فهو فقط زين القرار بتوقيعه، لكن عملية الاختيار قام بها عبد الفتاح السيسي وهم حلفاؤه في الانقلاب، ولم ينس صاحب القرار أن يطعم المجلس بوجوه يمينية، فكان مختار نوح وكمال الهلباوي المنشقان على جماعة الإخوان!
ناصر أمين.. ناصري، رأى بطش السلطة في عهد مبارك، فقام بتحويل مساره ليصبح حقوقياً، وكانت هذه هي الموضة، فمعظم شباب الحركة الناصرية تركوا العمل السياسي وانغمسوا في العمل الحقوقي مدفوع الأجر من قبل الغرب الذي كان عبد الناصر ينعته بالامبريالي، ولم يجد بعضهم غضاضة من أن يمول أمريكياً، وكانت واشنطن تريد ان تصنع نخبتها في الوطن العربي، فوجدت في هؤلاء ما يمكن أن يفي بالمهمة مرحلياً، قبل أن تجد الأمل والمنى في شباب الحركات الجديدة الذي هو بلا مرجعية سياسية، قد تحد من مهمة شرائه بالكامل!
انظر كيف أن أول انشقاق وقع في حركة السادس من أبريل كان بسبب “سفرية” لواشنطن كانت من نصيب ناشطة منهم. قالوا إنها بعد انهيارها أمام النيابة العامة، وفي مقابلات تلفزيونية لم تعد تعبر عن الحركة، فاختارت السفارة الأمريكية بالقاهرة معها شخصاً آخرا كان أسبق المعترضين عليها، فلما اعترض عليه آخرون، علمت السفارة الأمريكية بالقاهرة سقف طموح الشباب فكان السفر من نصيب الجميع!
الناصريون الحقوقيون ظلوا هكذا، إلى ان صار الناشط السياسي هو موضة العصر فتحولوا إلى نشطاء في مرحلة ما بعد ثورة يناير وعندما كانت المعارضة ليست عليها ضريبة.
قضية حقوق الإنسان عندما كانت موضة حولت محمد فائق وزير الإعلام في عهد عبد الناصر إلى حقوقي، وترأس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وهو الذي ينتمي لدولة القهر والاستبداد، فلم يرو عنه اعتراضاً على القمع والبطش في عهد الناصر!
وكان أن استعان به حسني مبارك لاستكمال الشكل مع رجل دولته بطرس غالي في “سبوبته” المسماة بالمجلس القومي لحقوق الإنسان، وكان للسيدة حرمه سوزان “سبوبة” أخرى هي المجلس القومي للمرأة.
عند أول تشكيل للمجلس القومي بعد الثورة، وفي وجود مجلس الشورى المنتخب صاحب سلطة تشكيله، كان طبيعياً ألا يكون فيه محمد فائق فيه، لكن عندما وقع الانقلاب كان من الطبيعي أن يعود إليه فهو كان ضمن تشكيله في ظل حكم مبارك، وهذا الانقلاب الذي حدث استهدف العودة إلى زمن مبارك، فضلاً عن أنه ينتمي إلى القوى السياسية التي تآمرت على حكم الرئيس محمد مرسي، والتي خرجت جنباً إلى جنب مع الفلول وأعداء ثورة يناير يوم 30 يونيه الماضي بهدف إسقاط حكم الرئيس المنتخب، ووجد فيهم عبد الفتاح السيسي ضالته!
منذ البداية كتبت أن القوى التي كانت حاضرة في ثورة يناير تمت الاستعانة بها من قبل العسكر لكي تكون غطاء ثورياً للثورة المضادة.. وجاءت تشكيلة الحكومة برئاسة حازم الببلاوي كاشفة عن هذا الهدف!
مبارك كان الأكثر وعياً في استخدامه لليسار المصري المشتاق للقرب للسلطة، الذي كان السادات لا يحمل له وداً في قلبه، وان كان بعض الرموز اليسارية مقربة منه.
ولم تكن لليسار أزمة في موقف السادات منها، فقد كانت هناك دول الصمود والتصدي تحتفي بهؤلاء، قبل أن تفق هذه الدول من غيبوبتها وتقف على أنها أمام تيارات ليس لها وجود حقيقي في الشارع. وعبر عن ذلك معمر القذافي في بداية الثمانينات، عندما قال وفي فمه مرارة:
“اليساريون المصريون ظلوا يطلبون مني “مصاري” لقلب نظام السادات الخائن والعميل.. نريد مصاري لقلب نظام السادات الخائن والعميل. وفي النهاية فان من قتلوا السادات الخائن والعميل لم يكونوا يأخذون مني مصاري”.
كان اليساريون يقولون إن نظام السادات استعان باليمين الديني لمواجهة اليسار في الجامعات وغيرها. وجاء مبارك ليستعين باليسار ولمواجهة اليمين الديني لمدة ثلاثين عاماً. لكن تبدو المشكلة في أن التيارات الدينية نمت في زمن القهر، في حين تلاشى اليسار في زمن الرخاء، وقد عُين في المجالس النيابية، فلم ينشغل بمكانته في صفوف الجماهير بعد أن صار من الصفوة المختارة بقرار رئاسي، وفتحت لهم وزارة الثقافة ليركضون فيها ركض الوحش في البرية، ولهذا كلما سمعوا تغييراً لوزيرها على غير القواعد التي وضعها مبارك تنادوا: هي الحرب. ليظل الخيار المقبول منهم إلى الآن هو الذي رباه فاروق حسني وصنعه على عينه!
ليس لدى السيسي وفريقه خطاباً سياسياً ليقدمه للناس فكان لا بد من الاستعانة باليسار ليتصدر المشهد والذي وجدها فرصة تاريخية ورمية بغير رام. واليسار، ولأنه يعلم انه من القوى السياسية الفاشلة، التي لن تمكنها الجماهير من السلطة، فقد وجدوا في العسكر ما يقربهم منها مقابل أن يكونوا في خدمته، فبالغوا في إثبات الولاء العذري!
في الحكومة قام القوم بكل العمليات القذرة، من تبرير القمع والاستبداد، إلى تبرير الاستيلاء على أموال الناس!
والثمن كان خروجهم من الحكومة بعد ان صاروا أوراقاً محروقة، فلا تم تركهم ليكونوا في السلطة، ولا قدموا سابقة أعمال للأيام السوداء التي تنتظرهم. فهل يعقل مثلاً أن يعود كمال أبو عيطة وزير القوى العاملة لصفوف العمال من جديد، وهو الذي تنكر لقضاياهم ولحقوقهم؟!
وهل يمكن لحسام عيسي وزير التعليم العالي أن يعود إلى صفوف القوى الوطنية باعتباره شخصاً توافقياً، ومعارضاً نزيهاً، وهو من ركن لحكم العسكر وللذين ظلموا، وفي النهاية وبعد أن انتهى تماماً قالوا له أرنا عرض أكتافك؟!
كان درس تصرف الحكم العسكري ماثلاً ومع هذا جاء وجهاء ما يسمى بالمجلس القومي لحقوق الإنسان، ليقدمون عرضاً علي مسرح الانقلاب العسكري، ليبيضوا وجه عبد الفتاح، ولكي يمنحونه البراءة في قضية مجزرة رابعة، وشاهدنا سقوطاً غير مسبوق في الأداء إلى الهاوية.
ربما التعلق بالأمل هو ما جعل القوم يظنون أن ما سرى على إخوانهم في الحكومة لن يسري عليهم، لكن فاتهم أن قاعدة التعامل واحدة، والسيسي وهو يؤسس دولته الجديدة لا يريد أحداً له خلفية سياسية.. انظروا إلى اختياراته في الحكومة لتقفوا علي نظرته للحياة.
لقد تحول أعضاء المجلس القومي لحقوق الإنسان إلى أوراق سياسية محروقة بهذا التقرير الجريمة، عن مجزرة رابعة، وسيخرجون من كنف سلطة الانقلاب، فلن يكون مقدورهم أن يعودوا حقوقيين أو ان يستمروا نشطاء سياسيين!
العسكر لن يسمحوا لمن كان معهم أن يتطاول عليهم، ومن الحلفاء من أرادوا ان يظهروا تمايزاً فخرجوا يرفضون قانون التظاهر، وأعلنوا في الوقت ذاته عدم سماحهم للإخوان بمشاركتهم نضالهم.. ولم يشفع لهم كل هذا فتم القبض علي رموزهم والدفع بهم الي غياهب السجن!
والعسكر يلوحون منذ فترة ليست بالقصيرة بفتح ملف التمويل الأجنبي، وكلما لوحوا بذلك شاهدنا من النشطاء فزعاً أنتج تأييداً.
إلى المحرقة يا رفاق!