الحمد لله والصلاة الوسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم - .
أما بعد؛
هناك من الناس من يصعب عليهم الصدق لاستمرائهم الكذب فصار عندهم سجية ، وهذا من مصائب الزمان والمكان ، وقد يكذب الإنسان فيما يحسنه ليسحر أعين كما فعل سحرة فرعون أما أن يكذب فيما لا يحسنه إنما يتلقف ما يقال دون وعي أو تحليل فهذا كذبه وبهتانه يظهر للأعمى ، وكما قال ابن حجر كلمته المشهورة :"من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب"، لأنه لا يحسنها ، وفي كل يوم يطلع علينا إبراهيم عيسى مطلُ برأسه ليلقي علينا شبها ويظن (أنه أتى بالذئب من ذيله) ، ولا يدري أنا ما قاله قد قاله غيره من زمان قديم ، وقد رد عليهم أيضا من زمن قديم ، وها هو اليوم يعيد ما قاله أجداده المشككون في السنة ((وقد ردد عدد من المستشرقين هذه الشبهة منهم جولد زيهر وشبرنجر ، ودوزي ، فقد عقد " جولد زيهر " فصلاً خاصاً حول تدوين الحديث في كتابه " دراسات إسلامية " وشكك في صحة وجود صحف كثيرة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم- ، ورأى " شبرنجر " في كتابه " الحديث عند العرب " أن الشروع في التدوين وقع في القرن الهجري الثاني ، وأن السنة انتقلت بطريق المشافهة فقط ، أما " دوزي " فهو ينكر نسبة هذه " التركة المجهولة " - بزعمه - من الأحاديث إلى الرسول صلى الله عليه و سلم ))رافعا في ذلك راية الكذب والتدليس داخلا في معارك ليس على قدرها وأنى له وهذا ذكرني بقول الشاعر:"وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس " وهو بيت شعر يضرب لصغير الحجم يوضع مع الكبار ، فرد علينا السنة وأنها لم تدون في عهد الصحابة أو كما قال :"وقد منع الصحابة الأوائل تدوينها تماما" ، لذلك أدخل في الموضوع حتى لا أطيل عليكم ونبدأ نعرض تدليس إبراهيم عيسى :
أولا يقول :(( قال الذهبى: إن أبا بكر الصديق رضى الله عنه جمع الناس بعد وفاة نبيهم، فقال إنكم تحدِّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدِّثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه!)).
هكذا قال إبراهيم عيسى فلنذهب لنرى ما قاله الذهبي في كتابه (تذكرة الحفاظ):" ومن مراسيل بن أبي مليكة أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافا فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه.
فهذا المرسل يدلك أن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري لا سد باب الرواية، ألا تراه لما نزل به أمر الجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنة، فلما أخبره الثقة ما اكتفى حتى استظهر بثقة آخر ولم يقل حسبنا كتاب الله كما تقوله الخوارج.".
قلت: بدأ الذهبي كلامه "ومن مراسيل ابن أبي مليكه " ، وهذا يعني أن أن الكلام منقطع ولا ندري عمن نقله ابن أبي مليكه فإن ابن أبي مليكة لم يدرك أبا بكر – رضي الله عنه – وبهذا نستدل أن الحديث ضعيف ، ثم انظر ماذا قال الذهبي بعد ذلك :" فهذا المرسل يدلك أن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري لا سد باب الرواية "، رأيتم إخواني التدليس وبتر كلام أهل العلم ليصل إلى غايو معينة.
ثانياً قال :(( قالت عائشة رضى الله عنها: جمع أبى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت خمسمئة حديث، فبات ليلته يتقلب كثيرا، فلما أصبح قال: أى بنية، هلمى الأحاديث التى عندك، فجئته بها، فدعا بنار فحرقها! فقلت: لِمَ أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهى عندى فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدّثنى، فأكون قد نقلت ذاك!)).
قلت هذا لا يصح :قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني – ذهبي العصر-:" أقول: لو صح هذا لكان حجة على ما قلناه، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الأحاديث مطلقاً لما كتب أبو بكر. فأما الإحراق فلسبب أو سببين آخرين كما رأيت. لكن الخبر ليس بصحيح، أحال به أبو رية على تذكرة الحفاظ للذهبي وجمع الجوامع للسيوطي ولم يذكر طعنهما فيه، ففي التذكرة عقبه (( فهذا لا يصح )).
وفي كنز العمال (237:5) - (( قال ابن كثير هذا غريب من هذا الوجه جداً،. وعلي بن صالح أحد رجال سنده لا يعرف )أقول: وفي السند غيره ممن فيه نظر. ".(الأنوار الكاشفة 38)
ثالثاً قال المدلس - يعني إبراهيم عيسى- :(( وفى عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه: استمر هذا المنع من الحديث زمن عمر كله، ولم يقتصر حكمه على أبى هريرة وكعب الأحبار اللذين اتهمهما فى الحديث، وتوعدهما بالطرد إلى ديارهما الأولى إن هما لم يكفَّا عن الحديث..)).
قلت : روى هذا الكلام ابن عساكر في تاريخه :" أبو زرعة حدثنا محمد بن زرعة حدثنا مروان عن سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله عن السائب بن يزيد قال سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة لتتركن الحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو لألحقنك بأرض دوس وانقطع من كتاب أبي بكر كلمة معناها دوس وقال لكعب لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة ".
قال المعلمي اليماني –رحمه الله - :" فليتدبر القارئ،وينظر من الذي يعمل في دهاء ومكر لإفساد الدين وسوء دخلة؟ هذا وسند الخبر غير صحيح، ولفظه في البداية (( قال أبو زرعة الدمشقي حدثني محمد بن زرعة الرعيني حدثنامروان بن محمد حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبد الله بن السائب الخ ))ومحمد بن زرعة لم أجد له ترجمة، والمجهول لا تقوم به حجة ..، وفي البداية عقبه (( قال أبو زرعة: وسمعت أبا مسهر يذكره عن سعيد بن عبد العزيز نحوا منه لم يسنده )) أقول وسعيد لم يدرك عمر ولا السائب، هذا ومخرج الخبر شامي، / ومن الممتنع أن يكون عمر نهى أبا هريرة عن الحديث البتة ولا يشتهر ذلك في المدينة ولا يلتفت إلى ذلك الصحابة الذين أثنوا على أبي هريرة ورووا عنه وهم كثير كما يأتي، منهم ابن عمر وغيره كما مر ص106، هذا باطل قطعاً، على أن أبا رية يعترف أن كعباً لم يزل يحدث عن الأول حياة عمر كلها، وكيف يعقل أن يرخص له عمر ويمنع أبا هريرة؟ هذا باطل حتماً، وأبو هريرة كان مهاجراً من بلاد دوس والمهاجر يحرم عليه أن يرجع إلى بلده فيقيم بها فكيف يهدد عمر مهاجراً أن يرده إلى البلد التي هاجر منها؟ وقد بعث عمر في أواخر إمارته أبا هريرة إلى البحرين على القضاء والصلاة كما في فتوح البلدان للبلاذري ص 92 - 93 وبطبيعة الحال كان يعلمهم ويفتيهم ويحدثهم "(الأنوار الكاشفة)
رابعاً:قال إبراهيم عيسى :(( وسرى أيضا إلى أمرائه، فقد كان يأخذ عليهم العهد باجتناب الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وربما بالغ فى هذا فمشى مع عماله بعض الطريق يودعهم، ثم يذكر لهم أنه إنما خرج معهم لأجل هذه الوصية: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوىٌّ بالقرآن كدوىِّ النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جرِّدوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله، وأنا شريككم! فلما قدم بعضهم العراق، قالوا له: حدِّثنا. قال: نهانا عمر)).
قلت: وسأرد عليه من كلام أهل العلم الذين رووا هذا الحديث وهو ابن حبان صاحب الصحيح – رحمه الله تعالى – حيث قال :" لم يكن عمر بن الخطاب - وقد فعل - يتهم الصحابة بالتقول على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ردهم عن تبليغ ما سمعوا من رسول الله - (صلى الله عليه وسلم) - وقد علم أنه (صلى الله عليه وسلم) - قال: " ليبلغ الشاهد منكم الغائب " وأنه لا يحل لهم كتمان ما سمعوا من رسول الله - (صلى الله عليه وسلم) - ولكنه علم ما يكون بعده من التقول على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لانه عليه السلام قال: " إن الله - تبارك وتعالى - نزل الحق على لسان عمر وقلبه " وقال: " أن يكون في هذه الامة محدثون فعمر منهم " فد عمر من الثقات المتقنين الشهدوا الوحى والتنزيل فأنكر عليهم كثرة الرواية عن النبي (صلى الله عليه وسلم لئلا يجترئ من بعدهم ممن ليس في الاسلام محله كمحلهم فيكثر الرواية فيزل فيها أو يقول متعمدا عليه - صلى الله عليه وسلم - لنوال الدنيا.
وتبع عمر عليه على بن أبى طالب رضوان الله عليهما باستحلاف من يحدثه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإن كانوا ثقاتا مأمونين، ليعلم بهم توقى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله فيرتدع من لا دين له عن الدخول في سخط الله جل وعلا فيه.
وقد كان عمر يطلب البينة من الصحابة على ما يرويه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مخافة
الكذب عليه لئلا يجئ من بعد الصحابة فيروى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ما لم يقله. "(المجروحين لابن حبان 1/ 36 ، 37)
وقال ابن عبد البر :" قال أبو عمر: احتج بعض من لا علم له ولا معرفة من أهل البدع وغيرهم الطاعنين في السنن بحديث عمر هذا قوله: أقلوا الرواية عن رسول الله, صلى الله عليه وسلم: وبما ذكرنا في هذا الباب من الأحاديث وغيرها ، وجعلوا ذلك ذريعة إلى الزهد في سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي لا يوصل إلى مراد كتاب الله إلا بها ، والطعن على أهلها، ولا حجة في هذا الحديث ولا دليل على شيء مما ذهبوا إليه من وجوه قد ذكرها أهل العلم.
منها: أن وجه قول عمر إنما كان لقوم لم يكونوا أحصوا القرآن، فخشي عليهم الاشتغال بغيره عنه، إذ هو الأصل لكل علم "(جامع بيان العلم وفضله 2/ 242)
خامساً قال اإبراهيم عيسى :(( وفى عهد الخليفة عثمان رضى الله عنه: خطب الناس، فقال: لا يحل لأحد يروى حديثا لم يسمع به فى عهد أبى بكر ولا فى عهد عمر، فإنه لم يمنعنى أن أحدِّث عن رسول الله أن لا أكون من أوعى أصحابه، إلا أنى سمعته يقول: من قال علىَّ ما لم أقل فقد تبوَّأ مقعده من النار)).
قلت : قال الشيخ المعلمي اليماني :" هو عند ابن سعد عقب السيرة النبوية في باب (( ذكر من كان يفتي بالمدينة )) رواه ابن سعد عن محمد بن عمر الأسلمي وهو الواقدي أحد المشهورين بالكذب، وكان ابن عساكر رواه من طريقه، وحال تاريخ ابن عساكر قد مر، وأحاديث عثمان ثابتة في أمهات الحديث كلها، ولم يزل يحدث حتى قتل. "(الأنوار الكاشفة 57).
استدراك قول ابراهيم عيسى :" بل سرى إلى رجال من كبار الصحابة، منهم: عبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو مسعود الأنصارى، فقال لهم: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله! فحبسهم فى المدينة."
الرد: قال الإمام الطحاوي :" أن عمر كان مذهبه حياطة ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان الذين رووه عدولا إذ كان على الأئمة تأمل ما يشهد به عندهم ممن قد ثبت عدله عندهم فكان عمر فيما يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يحفظه عنه كذلك أيضا وكذلك فعل بأبي موسى مع عدله عنده فيما حدث به عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يكن عنده في الاستئذان مما ذكرناه فيما تقدم منا في كتابنا هذا وقد وقف على ذلك منه أبي بن كعب ومن سواه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين وقفوا على ذلك منه ولم ينكروه عليه ولم يخالفوه فيه فدل ذلك على موافقتهم إياه عليه ولما كان ذلك كذلك فعل في أمور الذين كان منه في حبسهم مما كان فعله في ذلك لهذا المعنى لا لأن يقطعهم عن التبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ما قد سمعوه منه وكذلك كان أبو بكر رضي الله عنه قبله في مثل هذا "(مشكل الآثار 15/ 133)
والسؤال هنا هل دونت السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
1- قال ابنُ القيم في "تهذيب مختصر سنن أبي داود" 5/245: قد صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النهي عن الكتابة والإذنُ فيها، والإذنُ متأخر، فيكون ناسخاً لحديث النهي، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في غزاة الفتح: "اكتبوا لأبي شاه" يعني خطبته التي سأل أبو شاه كتابتها، وأذن لعبد الله بن عمرو في الكتابة، وحديثه متأخر عن النهي، لأنه لم يزل يكتب، ومات وعنده كتابته، وهي الصحيفة التي كان يسميها "الصادقة"، ولو كان النهي عن الكتابة متأخراً لمحاها عبد الله، لأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمحو ما كُتب عنه غير القرآن، فلما لم يمحها وأثبتها، دل على أن الإذن في الكتابة.
1- الثابت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :"بلغوا عني ولو آية"، وقال ابن عبد البر :" ما روى مالك ومعمر وغيرهما، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس، عن عمر بن الخطاب في حديث السقيفة أنه خطب يوم جمعة فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني أريد أن أقول مقالة قد قدر لي أن أقولها، من وعاها وعقلها وحفظها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته، ومن خشي أن لا يعيها فإني لا أحل له أن يكذب عليّ، إن الله بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالحق وأنزل معه الكتاب، فكان مما أنزل معه الرجم... وذكر الحديث.
وهذا يدل على أن نهيه عن الإكثار وأمره بالإقلال من الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما كان خوف الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخوفا أن يكونوا مع الإكثار يحدثون بما لم يتيقنوا حفظه، ولم يعوه؛ لأن ضبط من قلت روايته أكثر من ضبط المستكثر، وهو أبعد من السهو والغلط الذي لا يؤمن مع الإكثار، فلهذا أمرهم عمر من الإقلال من الرواية، ولو كره الرواية وذمها لنهى عن الإقلال منها والإكثار، ألا تراه يقول: فمن حفظها ووعاها فليحدث بها. فكيف يأمرهم بالحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينهاهم عنه؟ هذا لا يستقيم، بل كيف ينهاهم عن الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويأمرهم بالإقلال منه، وهو يندبهم إلى الحديث عن نفسه بقوله من حفظ من حفظ مقالتي ووعاها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته؟!! ثم قال: ومن خشي أن لا يعيها فلا يكذب عليّ"[جامع بيان العلم وفضله 2/ 242]
2- وقال ابن عبد البر :" قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها" الحديث. وقد ذكرناه من طرق في صدر هذا الكتاب. وفيه الحض الوكيد على التبليغ عنه -صلى الله عليه وسلم- وقال: "خذوا عني" في غير ما حديث و: "بلغوا عني" والكلام في هذا أوضح من النهار لأولي النهى والاعتبار، ولا يخلو الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أن يكون خيرا أو شرا، فإن كان خيرا ولا شك فيه أنه خير فالإكثار من الخير أفضل, وإن كان شرا ولا يجوز أن يتوهم أن عمر يوصيهم بالإقلال من الشر. وهذا يدلك أنه إنما أمرهم بذلك خوف مواقعة الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخوف الاشتغال عن تدبر السنن والقرآن؛ لأن المكثر لا تكاد تراه إلا غير متدبر ولا متفقه.
- وذكر مسلم بن الحجاج في كتاب التمييز، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا الفضل بن موسى، قال: حدثنا الحسين بن واقد، عن الرديني بن أبي مجلز، عن أبيه، عن قيس بن عباد، قال سمعت عمر بن الخطاب، يقول: من سمع حديثا فأداه كما سمع فقد سلم"[جامع بيان العلم وفضله 2/ 243]
3- وقال ابن حزم :" إن عمر نفسه رويت عنه خمسمائة حديث ونيف فهو مكثر بالقياس إل المتوفين قريباً من وفاتته"(المحلى)
4- أن تصنيف الحديث على الأبواب في المصنفات والجوامع مرحلة متطورة متقدمة جداً في كتابة الحديث ، وقد تم ذلك قبل سنة 200 للهجرة بكثير ، فتم في أوائل القرن الثاني ، بين سنة 120 ـ 130 هـ ، بدليل الواقع الذي بين لنا ذلك ، فهناك جملة من هذه الكتب مات مصنفوها في منتصف المائة الثانية ، مثل جامع معمر بن راشد(154) ، وجامع سفيان الثوري(161) ، وهشام بن حسان(148) ، وابن جريج (150) ، وغيرها كثير .…
5- ثم إن جمع السنة في الكتب قبل استحكام أمر القرآن كان عرضة لأن يُقبِل الناس على تلك الكتب ، ويدعوا القرآن ، فلذلك رأوا أن يكتفوا بنشرها عن طريق الرواية ، وبعض الكتابات الخاصة .…
أضف إلى ذلك أن القرآن يختلف عن السنة من حيث أنه متعبد بتلاوته ، معجز في نظمه ولا تجوز روايته بالمعنى ، بل لا بد من الحفاظ على لفظه المنزل ، فلو ترك للحوافظ فقط لما أمن أن يزاد فيه حرف أو ينقص منه ، أو تبدل كلمة بأخرى ، بينما السنة المقصود منها المعنى دون اللفظ ، ولذا لم يتعبد الله الخلق بتلاوتها ، ولم يتحداهم بنظمها ، وتجوز روايتها بالمعنى ، وفي روايتها بالمعنى تيسير على الأمة وتخفيف عنها في تحملها وآدائها . …
وقد بلَّغ - صلى الله عليه وسلم - الدين كله وشهد الله له بهذا البلاغ فقال سبحانه : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } (7) ، ووجود السنة بين الأمة جنباً إلى جنب مع القرآن الكريم فيه أبلغ دلالة على تبليغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - إياها لأمته وبالتالي لم يضع نصف ما أوحاه الله إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما زعم الزاعمون - ، بل الجميع يعلم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتمتعون بحوافظ قوية ، وقلوب واعية ، وذكاء مفرط ، مما أعانهم على حفظ السنة وتبليغها كما سمعوها ، مستجيبين في ذلك لحث نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لهم في الحديث الذي رواه الترمذي و غيره بقوله ( نضر الله امرءاً سمع مني مقالة فحفظها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع).
وفي نهاية المقال أقول اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه .