واقعة القبض على ضابط شاب يعمل فى جهاز "الأمن الوطنى" ، "أمن الدولة" سابقًا ، وهو مندسّ بين عمال متظاهرين أمام مجلس الشعب ويحرضهم على اقتحام المجلس والاشتباك مع الشرطة العسكرية والمدنية؛ بحجة أن ذلك يجعل قضيتهم قضية رأى عام، هذه الواقعة شديدة الخطورة بالفعل، ليس فى ذاتها، ولكن بما تعطيه من دلالات على طريقة تفكير وتخطيط جناح نافذ فى وزارة الداخلية، كما أن تلك الواقعة يمكن أن تعطينا أداة منطقية لتفسير العديد من الأحداث والمواقف المحيّرة فى مصر، سياسيًّا وأمنيًّا وجماهيريًّا فى الأشهر الأخيرة والتى حمّلناها لطرف ثالث مجهول.
وقد استمعت إلى عدد من المتظاهرين من شهود الواقعة، والذين قالوا إنهم تشكّكوا فى الأمر بعد أن تكرر تحريض هذا الشاب لهم على اقتحام البرلمان والاشتباك مع الشرطة المدنية والعسكرية، ولاحظوا أن الشاب تبدو عليه علامات الترف والنعيم؛ فهو ليس من العمال الكادحين ولا المتظاهرين، فلما سأله أحدهم: هل أنت معنا؟!، قال: نعم، فلما سأله عن رقْم الكارنيه الخاص به تلعثم!، فطلبوا من الجميع أن يُظهروا بطاقاتهم الشخصية، فحاول الشاب الهرب فجروا وراءه، وأمسكوا به وأوسعوه ضربًا وفتشوه، ففوجئوا ببِطاقته الشخصية تحمل بياناته كضابط فى جهاز الأمن الوطنى، وهو الجهاز الذى ورث جهاز أمن الدولة صاحب السمعة الإجرامية سابقًا والذى تم حله تحت ضغط الثوار، وتكشّفت الأمور أكثر بعد ذلك عندما كشف النقاب عن أن هذا الضابط الشاب هو نجل أحد القيادات الرفيعة فى وزارة الداخلية، وبعد غضبة نواب الشعب تعجل وزير الداخلية بالدفاع عن الضابط، حيث أصدر بيانًا ساذجًا جدًّا، يقول إن الضابط كان فى محيط البرلمان لمتابعة الحالة الأمنية، وأنه لم يكن مندسًّا بين المتظاهرين، ولم يحرضهم على اقتحام البرلمان، وهى ورطة كان ينبغى أن يتنزه عنها اللواء محمد إبراهيم؛ لأنه بذلك وضع نفسه فى موضع التستر على "مؤامرة" ومَن يخشى كسف المستور.
فى هذه الواقعة تم ـ مصادفة ـ الإيقاع "بالطرف الثالث" نظرًا؛ لأن المظاهرة كانت لجهة واحدة وكل المشاركين فيها تقريبًا من مكان عمل واحد ويعرفون بعضهم البعض، فيا تُرى كم من الوقائع الأخرى السابقة التى كان الحابل فيها يختلط بالنابل، وفيها أصناف من المتظاهرين لا يعرف بعضهم بعضًا، فيندس بينهم مثل هذا الضابط لكى "يشعللها"، وربما يدفع بالبعض إلى ارتكاب جرائم الحرق والنهب والسلب والتخريب وإطلاق الرَّصاص المجهول واقتحام المنشآت العامة والخاصة؟!، يا تُرى كم ضابطًا من الأمن الوطنى قبل هذا شاركوا فى أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء وقصر العينى وحرق المجمع العلمى وأحداث ماسبيرو واغتيال الشيخ عماد عفت وغيرها من الوقائع التى كنا نشتمُّ فيها رائحة "الطرف الثالث" دون أن نضع أيدينا على شىء ملموس؟!، ويا تُرى كم قيادة بالوزارة ساهمت فى إشاعة الفوضى ونشر البلطجة والانفلات الأمنى؛ لكى تجعل الناس "تكفر" بالثورة وما أنتجته؟!، ويا تُرى كم سيدفع الوطن من أمنه وأمانه واستقراره السياسى والاقتصادى قبل أن يتم "تطهير" وزارة الداخلية من "البؤر" الإجرامية التى مازالت تعشش فيها وتحاول تخريب مسار الثورة التى قضت على نفوذ ومصالح مالية واجتماعية وسياسية كبيرة لقيادات بالوزارة؟!
إن وزراة الداخلية كِيان ضخم، وكيان وطنى، وغالبية أفراده يعانون كما يعانى بقية الوطن، ومنهم مَن يضحى بأمنه وحياته من أجل حماية المواطنين ومقدرات الوطن، فلا يصح أن تُترك شرذمة فاسدة فيه تشوّه وجه تلك الوزارة المهمة، أو أن توظف سلطاتها ونفوذها لإشاعة أجواء من الفوضى والإجرام على النحو الغامض والخطير الذى نعيشه طوال الأشهر الماضية، آن الأوان لأن نجعل من تطهير الداخلية أولوية قصوى، لا تحتمل أى تأخير أو كسل .