يتحدث يزيد صايغ في كتابه “فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر” الصادر عن معهد كارنيجي للسلام عن تحول هائل في ثقافة القوات المسلحة المصرية.
ويشير صايغ إلى أن المؤسسة العسكرية المصرية حملت دورا داخليا في مصر إبان عهد الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر، بالطبع بالإضافة إلى دورها الأساسي في حماية الوطن ضد الاعتداءات الخارجية، هذا الدور تمثل في تطبيق سياسة تمصير واسعة النطاق للقطاعات الاقتصادية الثلاثة، الزراعي والصناعي والمالي، حيث رعت عملية توزيع الأراضي على الفلاحين المصريين، وتمصير القطاع المالي المصري لتصبح مصر مالكة لسيولة ثروتها، ثم تمصير وتوسيع رقعة القطاع الصناعي ورفع إسهامه في الناتج القومي المصري.
كان هذا الدور يفرض ثقافة سياسية ذات طابع قومي؛ تجعل القوات المسلحة مؤسسة تنتمي لمصر ومستقبلها، حيث اهتمت إلى جانب قوتها الذاتية باحتضان تطلعات الشعب المصري قاطبة نحو التحرر من الاستعمار وتسلطه على ثروة البلاد وقرارها السياسي، لكنها هذه الثقافة شهدت تحولا هائلا في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، ويرى صايغ أن هذه الثقافة الجديدة ثقافة ذات طابع سلبي.
هل أصبح ضباط مصر طائفة؟
يقدم صايغ في كتابه “فوق الدولة” افتراضات تحتاج مزيد تشريح وفحص، فالسياسة المضطربة للرئيس الأسبق مبارك حدت به إلى انتهاج سياسة تضمن له ولاء مستويات مختلفة من ضباط القوات المسلحة، فعلى خلاف عبدالناصر الذي اعتمد على الولاء الشخصي من صديقه عبدالحكيم عامر، وأيضا بخلاف منهج السادات في إشعال التنافس لإرضائه بين ضباط القوات المسلحة وسرعة تغييره لوزراء دفاعه (7 وزراء في 11 عاما)، يرى صايغ أن مبارك عمل على استمالة القوات المسلحة ودمجها في نظامه الرئاسي القائم على النفوذ والمحسوبية، وهو ما أدى – بحسب يزيد صايغ – إلى نزع الصبغة والدور السياسيين على أداء هذه المؤسسة.
وتمثلت وسيلة الاستمالة في الوعد بـ”بدل ولاء” يمنح للضباط في نهاية خدمتهم عبر تعيينهم في وظائف حكومية تؤمن لهم دخلا مضاعفا إلى جانب معاشهم الذي تصرفه المؤسسة العسكرية، ويعد “بدل الولاء” عوضا لأولئك الضباط عن الرواتب المتدنية التي كانوا يحصلون عليها أثناء خدمتهم في القوات المسلحة مقرونة بابتعادهم عن النشاط السياسي (ص: 9). وقد أشار يزيد صايغ إلى أن الرواتب التي يحصل عليها الضباط بعد التقاعد تتراوح ما بين مليون إلى مائة ألف جنيه شهريا للرواتب العليا وتقل بانخفاض الرتبة (ص: 11)؛ عبر وظائف في الشركات الكبرى المملوكة للدولة وانتهاء بأجهزة الإدارة المحلية بوظائفها المختلفة.
يضاف إلى ذلك عقود الاستدعاء التي تتيح للضابط المتقاعد أن يحصل على راتبه بجوار معاشه التقاعدي بالإضافة إلى راتب المؤسسة المدنية التي يعمل بها، ويشير صايغ إلى أن عقود الاستدعاء تمتد ما بين 6 أشهر وقد تبلغ مدتها 10 سنوات للضباط الكبار، وهو ما يعني استمرار الراتب واستمرار الزي العسكري واستمرار النفوذ والمكانة الاجتماعيين.
تلك المزايا التي حصل عليها العسكر جعلت منهم شريحة اجتماعية باتت أقرب ما يكون إلى الطائفة منها إلى الوظيفة ذات المفهوم الوطني.
التغير في نظرة الضباط لأنفسهم
إن الطبيعة الوطنية لدور القوات المسلحة في الدفاع عن البلاد أمر لا خلاف عليه، لكن بحسب دراسة صايغ لا يمثل مورد الثقافة السياسية الوحيد لدى القوات المسلحة. ويرى صايغ أن اتجاه مبارك لدمج القوات المسلحة في نظامه السياسي ونخبته السياسية، وهي العملية التي ضمنت ولاءهم وإذعانهم له هي نفسها العملية التي أبعدت أولئك الضباط عن واقع مصر السياسي والاجتماعي، وقلصت قدرتهم على المبادرة والإبداع؛ لكنها لم تقلص رغبتهم في حماية سلطاتهم المكتسبة وامتيازاتهم المتراكمة (ص: 13-14).
وفي توصيف صايغ لأداء المجلس العسكري الذي خلف مبارك في الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة 25 يناير، يشير صايغ إلى أن المجلس العسكري بقيادة محمد حسين طنطاوي فشل في تقديم رؤية اقتصادية اجتماعية سياسية لمصر، وتعثر مرارا وهو يحاول صياغة المرحلة الانتقالية. واعتبر أن هذا المجلس عاجز عن تصور أية سياسة تتطلب إصلاحا جوهريا أو تغييرا هيكليا؛ إذ اعتبر أن ذلك ينطوي بالضرورة على تهديد ضمني له. ويرى صايغ أن هذه القابلية لمواجهة الجهود الإصلاحية هي ما دفعت المجلس العسكري لكي يطيح بالرئيس الأسبق مبارك؛ لا تواصلا مع ثورة الشارع بل لحماية نفسه وإجهاض حصول تغيير ثوري أعمق (ص: 15). ويضيف صايغ أن هذه الرؤية المحافظة عززها تدهور الكفاءة الوظيفية لضباط القوات المسلحة التي تسبب فيها إدماجهم في نظام محسوبية مبارك.
نموذج مبارك المعدل لجمهورية الضباط
يرى صايغ أن تجربة إدارة السادات التي أدت لانحسار جمهورية الضباط التي بدأت تتضخم في عهد الرئيس عبدالناصر قد تراجعت لتحل محلها خبرة جديدة معدلة لا يشرف فيها الضباط على الدولة من خلال “المرتفعات المسيطِرة” فقط بل يدخلون في تركيب جهاز الدولة على كل المستويات المدنية والاقتصادية والمالية (ص: 16). ويعتبر أن عملية تنحية القوات المسلحة عن المشاركة العلنية في العملية السياسية قد رافقها تغلغل كبار الضباط في جهاز الدولة، وبالتالي في الاقتصاد السياسي للبلاد، حيث بلغ حدا غير مسبوق. غير أن صايغ انتقد كتابات الباحث والمفكر أنور عبدالملك الذي كتب عن عسكرة المجتمع في عهد الرئيس عبدالناصر، حيث كان عبدالملك قد قدر عدد الضباط الذين عينوا في المناصب العليا إبان عهد عبدالناصر بحوالي 1500 ضابط، وهو ما اعتبره صايغ تهوينا للحقيقة يصرف النظر عن عدد الضباط ذوي الرتب المتوسطة الذين تناثروا في بنية جهاز الدولة بأكمله. ويلفت صايغ إلى أن ذيوع صيت القيادات العسكرية في الجهاز البيروقراطي باعتبارهم إداريين أكفاء ليس مرده لكفاءتهم؛ بل لقدرتهم على التسلل عبر الشبكات العسكرية للوصول لمراكز القرار والحصول منها على مرادهم.
ويرى صايغ أن جمهورية الضباط المعدلة في مصر الراهنة تتسع لتمتد لكل مفاصل أجهزة الإدارة المحلية، بالإضافة إلى اتساع نطاق حضورها في الأجهزة الرقابية الحساسة في الدولة وعلى رأسها الجهاز المركزي للمحاسبات، فضلا عن الأجهزة الإدارية المركزية، وقطاعات الخدمة المدنية في الجامعات والكليات ومراكز البحوث المتخصصة والمجالس القومية والإذاعة والتليفزيون.. إلخ، بالإضافة لحضورهم في إدارات المرافق والأشغال والبنية الأساسية العامة، فضلا عن تعيينهم في مجالس إدارات الشركات التجارية المملوكة للدولة بمرتبات تبلغ مليون جنيه شهريا.
غير أن ما يلفت في كتاب صايغ أنه اعتبر أن مكانة جمهورية الضباط عززت حضور الثقافة الأبوية لديهم، فباتوا ينظرون لقطاع الحياة المدنية باعتباره قطاعا أقل شأنا أو ما أسماه “أعيالا”، وهو ما أنتج سلوكا مزدوجا حيال المجتمع؛ إذ إنه يبرر وصاية القوات المسلحة عليهم عبر انتشارهم في الأجهزة المدنية للدولة، كما أنتج ظاهرة توجه القوات المسلحة إليهم بالمعونات والهدايا.. ويرى صايغ أن هذا التوجه الأبوي أنشأ نزوعا للوصاية على المجتمع، وأن هذا النزوع للوصاية يقف جنبا إلى جنب مع سعيهم لحماية مصالحهم المكتسبة وامتيازاتهم المتراكمة.
لتحميل الكتاب : http://www.goodreads.com/ebooks/download/16233207
ثانيا