/>

لا تصدّقوه - سيف الدين عبد الفتاح



نحن في حاجةٍ، دائماً، إلى أن نتفحص هذه الذاكرة القريبة، حتى يمكننا التعرف على أن المصالح الآنية والأنانية التي قد تتحكّم في البشر تؤدي بهم إلى أفعالٍ تناقض أقوالهم. ويحاول هؤلاء أن يطلقوا دخاناً كثيفاً حتى لا تتّضح الأكاذيب، أو ينكشف الستر، أو ينفضح الزيف. ويُعرف التدليس عند قوم أرادوا بهذا الكلام المزدوج والفجوات بين الأقوال والأفعال أَن يمكروا بعموم الناس، أو يدلسوا عليهم بمكرهم، وخبث طويّتهم. هذا نوع من البشر لا بدّ أن نتوقف عنده، حينما يندرج بين الناس بعقل معيشي، على ما يقول الإمام ابن القيّم: "حتى يقضي مصالحه ويحقّق مآربه".



وإذا كان ذلك خطيراً في مقام أي إنسان عادي، بأنه بذلك يفتقد ميزان الحق والحقيقة، ومطابقة الكلام للأفعال، وتأكيد المعنى والقيمة، والمغزى والحكمة في ميزانٍ يجمع بين الأشخاص والأفعال والمواقف.. إذا كان هذا خطيراً في الإنسان العادي، كما أسلفنا، فإنه يصير كارثةً كبرى، حينما يحاول ذلك مَن يريد أن يتصدّر المشهد العام، في إطارٍ يحاول تسويق سلطانه وفرعونيته. الأخطر، في هذا المقام، أن يكون ذلك كله ضمن صناعة استخفافٍ كبرى، في إطار يدخل فيه الجميع بيت الطاعة، ويستدعي من نفوسهم وأفعالهم كل أحوال النفاق والمداهنة. إنه المستبدّ حينما يكذب على قومه، مستغلاً هذه الأحوال، لصناعة رضا كاذب، أَو إِذعانٍ خادع.



إنها متوالية الاستبداد، في إطار زيادة مساحة الفسق والكذب، في مجتمع فرعون الجديد الذي يوطّن لكذبه في نفوسهم، فيستطيع السيطرة عليهم، فيكونون في جوقة نفاقه، أو في بطانة خدمه. إنها العلاقة الفرعونية التي تقوم على قاعدة تشكيل غوغائي للرأي العام، في إطار يستخدم الأدوات كافة، لصناعة مجتمعٍ خليطٍ من الخوف ومن النفاق، ومن الكذب، والتضليل. وكان ابن خلدون محقّاً، حينما يؤكد أن صناعة مجتمع الفساد والفسق والكذب لا تنمو إلا في بيئة من تشكيل العقول على قاعدة الاستبداد والجور والاستخفاف، "مَن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلّمين حمله على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة. لذلك، وصارت له هذه عادة وخُلُقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له، من حيث الاجتماع والتمدُّن، وهي المدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل"، "فاستخفّ قومه، فأطاعوه، إنهم كانوا قوماً فاسقين".



طالت بنا المقدمات التي تحرّك معانٍ ثلاثة، نتوقف عندها، ضمن ذلك المشهد السياسي المصري، بعد استقالة المشير السيسي من وزارة الدفاع، وترشحه لمنصب الرئاسة، تحرّكه أقوالٌ كاذبة زائفة، وأفعال كاشفة، وسياسات فاضحة، تعبّر بذلك عن معنى، غاية في الأهمية، يجب أن نصدع به في هذا المقام، لنقول للشعب المصري بأسره، أيها الناس: لا تصدقوه!



حينما نقول ذلك، نذكّر الجميع بمقال سبق، سمّيناه" "السيسي يردّ على السيسي"، ترصَّد الفجوة بين الكلام والأفعال. يتجدّد الأمر، ليؤكد على الحال نفسه، ففي ذلك اليوم الذي قرر فيه أن يعلن ترشحه، تحدّث، في هذا البيان، عن بناء المستقبل وضرورته، وصناعة المستقبل وحركته، إلا أنه، في اليوم نفسه، قُتل طفلٌ لا يزيد عمره عن خمسة عشر عاماً، كان قد خرج متظاهراً من مدرسة السعيدية الثانوية المجاورة لجامعة القاهرة. وسبق ذلك بيومين حكم بالإعدام بالجملة (529 من المصريين)، حتى أنه، وفي ردّ فعلٍ عفوي لأحد الناشطين السياسيين، قال: "هم.. أعدموا المنيا!". وكأن الإعدام، الآن، قد يتجه إلى قرى بأسرها، أو محافظاتٍ بأكملها، وهو أمر شهد اعتراضاتٍ وتحفظاتٍ، من جهات دولية حكومية وغير حكومية، ومن مؤسسات حقوقية داخلية وخارجية. وكان الحديث عن إعدام العدالة، أو الاستهزاء بها، فأين هذا الحديث عن المستقبل؟ في حقيقة الأمر، والحال هذه، إنه ليس مَن يبني المستقبل، بل إنه مَن يقتل المستقبل وينفيه.. لا تصدقوه.



وعلى هذه القاعدة، ما هو برنامج السيسي، إذن؟ إنه ينطلق على أساسٍ من تكرار فجوة القول والفعل، بما يؤكد عدم التصديق، ولسان الحال يقول: "فعلت ما فعلت من فعل مضاد ومناقض، لتؤكد للجميع أنك تتحرى الكذب". ألم تشر إلى أن الجيش ليس له أن ينزلق إلى مساحات السياسة، وأن مكانه الثُكَن والحدود، وأنه لو نزل إلى الشوارع ما تبقى شيء، وستتخلّف مصر ثلاثين إلى أربعين عاماً أو يزيد؟ أما قلت إنه ليس من شأن الجيش أن يتجه إلى الداخل، ويحارب الإرهاب، وقد رفضنا محاربة الإرهاب في التسعينيات، لأن هذا ليس من شأن الجيش، فإذا بنا نرى مركبات الجيش فى الشوارع، وفي مواجهة التظاهرات والاحتجاجات؟ ألم تقل إن على هؤلاء الذين يستدعون الجيش أن يصبروا، ويقفوا في طابور الانتخابات ساعات، خير من أن ينزل الجيش إلى الشوارع، ويواجه الناس بأسلحته، وتسيل الدماء؟ وتحدثت، المرة تلو المرة، أن هذا النزول خطير، وأردفت: "جداً جداً جداً"؟ أين أنت، الآن، من أقوالك تلك التي نقضتها، وحاولت، بعد ذلك، أن تغطي ذلك كله، لتدخل من أسوأ باب، حينما دخلت من باب الانقلاب؟ أليس هذا نقضاً وزيفاً، حاولت فيه أن تستغل الغطاء الشعبي، في تسويغ تدخلك في الحياة المدنية والسياسية، وانحيازك لطرف على حساب طرف، وتعطيل الدستور، بعدما أقسمت على احترامه، واختطفت الرئيس، وسجنته، ونكّلت به، في محاكمات انتقائية وانتقامية. وخرجت جوقة الكذب من كل مكان، لتصنع صورة، أخطر ما تكون، هي في النهاية تحترف صناعة الكراهية، تحاول أن تقسم هذا الشعب إلى شعبين. ما الدواعي، إذن، التي جعلتك تنقض أقوالك بأفعالك، إلا مصالح آنية وأنانية؟ ودور تقوم به لحماية أركان الدولة العميقة فساداً واستبداداً، وتحرك ثورة مضادة، لتواجه ثورة 25 يناير بكل أهدافها، وبكل مكتسباتها.. لا تصدقوه.



أَلم تقل إنك لن تترشح، ولا تطمع في منصب، منوّهاً إلى تقديرك الدور العسكري الذي تقوم به؟ ماذا استجدّ في الأمر، وأنت تعلن، وبملء فيك، اعتزام الترشّح، بدعوى حشودٍ نادتك، هنا أو هناك، مدّعياً أنك لا تستطيع أن تدير ظهرك لشعبك؟ قلت، في بيانك، إنك توجّه حديثاً من القلب، تحكمه المصارحة والمكاشفة، ويتّصف بالصدق والأمانة، فأين أنتم من هذه الصفات، وقد مارستم كل أفعال الغدر وعدم الأمانة؟ تحدثت أنك لن تسمح بعبث العابثين من داخل أو خارج، وكنت أول مَن عبث بمستقبل سياسي لوطن، وقطعت الطريق على مسار ديموقراطي، واختطفت الرئيس المدني المنتخب. واستهترت، في الوقت نفسه، بخمسة استحقاقات انتخابية، لم ترَ بأساً في إلقائها في سلة المهملات، بجرّة سلاح، لترسي بدعة خطيرة أن "الجنرال يستطيع أن يعترض على أي شيء، وفي أي وقت"، وجعلت من الجيش دولة فوق الدولة.



أَلست أَنت مَن سوّغت فعل الحشود، ومداخل التفويض، وسبل التحصين. وكان ذلك هدماً لكل أصول المسار الديموقراطي والآليات التي ترتبط به؟ تأتي، الآن، بعد هذا العدوان الغادر على تلك الاستحقاقات الانتخابية، والاستفتائية، فلا تلقي لها بالاً، بينما تدعو الناس إلى أن يعطوك ثقتهم في انتخابات جديدة! أليست تلك انتخابات، أم في كل مرة سيأتي الجنرال ويرفع سلاحه اعتراضاً، إذا لم تعجبه الأمور، ولا قِبَل لأحدٍ بعد ذلك إلا أن يذعن، فتكون لعبة الانقلابات في مواجهة صناديق الانتخابات؟ أبديتَ أنك ستحاول بناء الدولة، وأنت، في حقيقة الأمر، تنقض مؤسساتها، وتورّط مؤسسات العدالة في خضمّ هذه الحالة الانقلابية، في حالة تسييس غير مسبوقة تُفقد الثقة في مؤسسة العدالة، وفي أدوارها ووظائفها الحقيقية، التي يجب أن تقوم بها في الانتصاف للحقوق، وفي إرساء معالم العدالة.. لا تصدقوه.



وتتحدث عن مشكلات مصر، من فقر وبطالة ومرض، ومسألة المعونات التي تعيش عليها مصر. وأكدت أن ذلك كله لا يليق بهذا الوطن. ولم يأتِ خطابك إلا مطالباً بالتقشف وتحمّل المعاناة، وقضاء على البطالة، وذلك بقضاء الأجهزة الأمنية على الشباب، في ميادين الاحتجاج والتظاهر، بالقنص، أو القتل أو الاعتقال أو الإعدام، فهل هذه خطتكم في مواجهة هذه التحديات؟ وهل يمكن، بعد ذلك، أن تتحدث عن دوران عجلة إنتاج، وأنت تحابي فئة دون فئة، فتغدق على تلك الفئة التي تحمي كرسي السلطة، بينما تتجاهل كل مطالبات فئات أخرى، مدعياً أن الدولة لا تملك شيئاً؟ (مفيش.. مفيش).. لا تصدقوه.



أقول لك، في النهاية، إنه لم يعد يصلح، لمواجهة تحديات هذ الوطن، إلا أن يسهم كل أحد في بناء مستقبله، من غير استبعاد أو إقصاء، من غير تخوين أو إضفاء صفة الإرهاب على أي فصيل، لتشكل الغطاء لأفعال كاشفة، وسياسات فاضحة. لم يعد يصلح خطاب "نور عنينا"، أو أن "السيسي معاناة وعذاب". لم تعد تصلح تلك المفردات الوجدانية والعاطفية في موقفٍ تحيط بك فيه المسؤوليات والتحديات والاحتجاجات. ماذا تملك من رصيد للترشّح، سوى مسار أمني، كنت قائده، باعتبارك نائباً لرئيس الوزراء للشؤون الأمنية، لم يكن له من شواهد، إلا القتل والقنص والخنق والحرق والاعتقال، وأخيراً الترويع بالإعدام. ما تحمله من رصيد هو "رصيد مدين"، وحينما يكون الدين متعلّقاً بالنفوس، يصير عظيماً لا تقدر على سداده.. لا تصدقوه.



أيها الشعب: قال، مرة تلو مرة، ونقض القول بأفعاله، وفضحته سياساته، فقام بكل عمل، ليحفظ مصالحه وسلطانه. أيها الشعب العظيم الذي ثار في 25 يناير، وأَراد أن يعيش حراً كريماً عزيزاً: إن الفرعون الجديد يريد أن يحبس هذا الشعب في صندوق الخوف، أَو يسجنه في صندوق الإذعان، فإن كنت من هؤلاء الذين يصرّون على إنقاذ ثورة، وتحقيق مصالح شعب، وتشكيل مستقبل أفضل لوطن "فلا تصدقه"، وكن مع الثائرين... نعم لا تصدقوه.

التعليقات
0 التعليقات