عودة أخيرة لمباحث أمن الدولة
لم أكن لأرغب فى العودة إلى الكلام عن جهاز مباحث أمن الدولة والتنبيه إلى خطورته على الثورة وعلى الأمن القومى لمصر، فقد أشبعت هذا الموضوع كلامًا وتحذيرًا متكررًا.. وقد اعتبرت استمرار وجوده تحت أى اسم هو من أكبر الكبائر التى تُرتكب فى حق الشعب المصرى.. لم أكن لأرغب فى العودة إلى هذا الموضوع لولا ما أثاره الأستاذ جمال سلطان فى مقال له بعنوان "الطرف الثالث متلبّسًا"، حيث كشف الغطاء عن حقيقة هذا الطرف الثالث المجهول الذى نُسبت إليه كل جرائم القتل والتحريض على القتل والتخريب واقتحام المؤسسات ونشر الفوضى والاضطراب.. فقد اتضح أن الطرف الثالث المجهول هذا يربض فى قلب وزارة الداخلية نفسها .. متستّرًا بين جدران أعتى وأخطر وزارة فى مصر.. ويتمتع بحصانة الوظيفة الأمنية، ويحظى بتوجيه وتشجيع قيادات كبيرة من صناعة "حبيب العادلى"، لا تزال تهيمن على توجيه الأمور..
ولم يستطع أى وزير داخلية بعد قيام الثورة حتى الآن أن يزحزح هذه القيادات من مواقعها فى الوزارة.. ربما لأن ما يراه - من موقعه هو - غير ما نراه نحن، ولا أستبعد أن يكون هو نفسه متواطئًا، أو آثر الصمت والمهادنة؛ لأنه يستشعر الرعب والخوف على حياته الشخصية، إن أقدم على تطهير هذه الوزارة من عناصر الفساد والإجرام التى تعشش فيها.. ولذلك استبْدَل - مقهورًا - عبارة "التطهير" بكلمات أخرى مثل "إعادة الهيكلة" مرة و"التطوير" مرة أخرى.. ثم لم يفعل شيئًا ليبقى الحال على ما هو عليه..
يتساءل الأستاذ جمال سلطان وأتساءل معه : "تُرى كم قيادةً بالوزارة ساهمت فى إشاعة الفوضى ونشر البلطجة والانفلات الأمنى؛ لكى تجعل الناس "تكفر" بالثورة وما أنتجته؟!، ويا تُرى كم سيدفع الوطن من أمنه وأمانه واستقراره السياسى والاقتصادى قبل أن يتم "تطهير" وزارة الداخلية من "البؤر" الإجرامية التى مازالت تعشش فيها وتحاول تخريب مسار الثورة..؟!"، ثم يُنْهى مقاله بهذا النداء: "لقد آن الأوان لأن نجعل من تطهير الداخلية أولوية قصوى، لا تحتمل أى تأخير...".
جمال سلطان محقٌّ فى كل ما قاله بهذا الخصوص.. ولقد كانت هذه الرؤية حاضرة فى ذهنى دائمًا منذ قيام الثورة، بل قبل الثورة حتى هذه اللحظة؛ فقد كتبت فى مقالى- الأسبوع الماضى- هذه العبارة: "... كم من وزير جديد تولى وزارة الداخلية بعد الثورة.. وكان مطلب الشعب يدوّى فى أذنيه بضرورة إعادة تشكيل هذه الوزارة على أسس وقواعد جديدة بعد أن ظلت ثلاثين عامًا أداة إرهاب واستبداد وفساد فى يد الدكتاتور مبارك..؟!، فهل استطاع وزير واحد أن يخرج من قوقعته الفكرية؛ ليفهم أو يفعل ما كان ينبغى عليه أن يفعله..؟!، لا...!؛ لماذا؟؛ لأنه لا يملك الإرادة.. ولا يملك القدرة.. ولا يملك الرؤية المناسبة للعمل الصحيح المثمر.. والذى قام باختياره لا يفْضُلُه فى شىء... وستلحظ دائمًا أن نوعًا من الجمود والتكلّس وضبابية الرؤية تميِّز الشخصيات التى تولت السلطة فى مصر بعد انهيار النظام القديم وانتصار الثورة..".
ترجع قصة اهتمامى بهذا الموضوع إلى يوم ٢٣ يناير ٢٠١١ قبل أن تندلع الثورة المصرية بيومين، فقد كتبت مقالاً عن الثورة التونسية بعُنوان: "الثورة التونسية أرْعبت الطغاة"، نُشر بجريدة "المصريون" فى اليوم التالى.. وكنت أردّ فيه على عشرات التصريحات والمقالات التى استبعدت انتقال الثورة إلى مصر؛ بحُجة أنها تختلف عن تونس.. فكتبت: "ليست الثورة ببعيدة عن مصر.. إنها تدق الأبواب وستفاجئ الجميع، وعندها سيعلم الذين ظلموا أىَّ منقلبٍ ينقلبون"!. وأبرزت فى هذا المقال التشابه المذهل بين النظامين "التونسى والمصرى".. وخصوصًا دورَ جهاز مباحث أمن الدولة فى قمع الشعبين.. وسُقت على ذلك مثالاً من جرائم جهاز أمن الدولة فى مصر.. ثم علّقت قائلاً: "إن السلطة (فى مصر) تُطلق كلابها تنهش فى كرامة الناس وأعراضهم، وتضيّق عليهم سبل الحياة.. وتغلق فى وجوههم أبواب الأمل فى مستقبل أفضل.. هذا الظلم البيِّن هو سبب الإحباط والجنون والانتحار.. وهو الذى يجعل خُطوات الشعوب نحو الثورة تتسارع .. حتى تقع الطامَّة على رءوس الطغاة..!".
وقد وقعت الطامة.. ولكن المهم أن جهاز أمن الدولة بشقّيه -المباحث وقوات الأمن المركزى- كان موضوعًا حاضرًا مؤرّقًا فى ذهنى طوال الوقت، فقد كتبت أعيد التحذير مرة بعد أخرى من استمرار وجوده؛ لأنه أداة خطِرة، تغرى أى دكتاتور لاستخدامه مرة أخرى لإعادة الشعب إلى حظيرة العبودية.. واقترحت الإسراع بتفكيكه، ووضعه تحت السيطرة.. ليُعاد تأهيل أفراده لزراعة أرض سيناء وإقامة نهضة صناعية بها.."، وأما بالنسبة لجهاز مباحث أمن الدولة فقلت عنه: "إنه مدرّب فقط لحماية رأس السلطة، ولا علاقة له بأمن الدولة ولا بأمن الشعب.. بل إنه مكيّف تكييفًا عقليًّا ونفسيًّا ضد هذا الشعب وضد حريته وتطلّعاته، ويُكِــنُّ عداءً شديدًا لقِيَمه الدينية والأخلاقية، ويحتقر كل ما يتصل بهُويّته... إنه مرض عُضال لا علاج له إلا بالاستئصال..".
وزارة الداخلية، بحكم تاريخها وتركيبتها وتوجّهاتها، كانت دائمًا أداة لقمع الشعب ومصادرة حرياته وامتهان كرامته، وسِجِلِّها حافل بالتعذيب والقتل.. لذلك يجب النظر فى إعادة تنظيمها وتطهيرها من الفساد والمفسدين، ومن تجار المخدرات... (انظر مقالتى بعنوان "الطاغية السّيْكُوباتْ"!، نُشرت بتاريخ ١٤ فبراير ٢٠١١).
وفى المقال التالى لخّصت فى نهايته المهام الأساسية التى ينبغى على الحكومة الانتقالية أن تركز عليها، فذكرت على رأسها "تفكيك ما تبقَّى من النظام البائد والسيطرة عليه".. وعلى الأخص ثلاث قوى، هى: الأمن المركزى، ومباحث أمن الدولة، وعناصر الحزب الوطنى الفاسد.. (انظر مقالى بعنوان "تطهير البلاد" المنشور فى ٢١ فبراير ٢٠١١).. وطبعًا لم تفعل هذه الحكومة شيئًا..
خلال الفترة التى تم فيها تدمير وحرق الوثائق بمقرّات أمن الدولة، عدْتُ إلى التحذير مرة أخرى من خطورة الإبقاء على جهاز مباحث أمن الدولة فى مقال بعنوان "قطار الثورة وجهاز قمع الشعب"، نُشر فى ٧ مارس.. كتبت فيه: "لن أملّ من التنبيه مرة بعد مرة إلى أن علاج جهاز مباحث أمن الدولة ليس بإعادة هيكلته، كما نسمع من وقت لآخر.. وإنما علاجه الوحيد والناجع هو إلغاؤه من الوجود تمامًا.. والمعادلة بسيطة جدًّا، هذا الجهاز (بصرف النظر عن فساده وجرائمه) .. لم يكن له فائدة تُذكر على الإطلاق لأمن مصر خلال ثلاثين عامًا مضت.. وإذن فمن المنطقى جدًّا أنه يمكن الاستغناء عن خدماته ثلاثين عامًا أخرى.. بلا أى خسائر تترتب على ذلك..!، هذا منطق بسيط يمكن أن يفهمه وزير الداخلية وكل مَن يتحدث عن إعادة هيكلة جهاز مباحث قمع الدولة.. فلنوفر على الشعب هذا الجهد الضائع والمال المهدور...".
وأضفت إلى ذلك اقتراحًا بشأن علاج وزارة الداخلية، فقلت: "إن المسألة لا تحتاج إلى لواء كبير لإدارة هذه الوزارة، بل إلى مدير إدارة قادر ودارس وفاهم للسياسة.. ولا بد أن يكون مدنيًّا من خارج هذه المؤسسة.. ليضمن أن تحقق الشرطة وظيفتها الصحيحة وواجبها الأساسى كمؤسسة وطنية فى خدمة الشعب..."، وضربت على ذلك مثلاً ببريطانيا، فقلت: "إن بريطانيا العظمى بجلالة قدرها، على رأس وزارة داخليتها سيدة مدنية تسمى "تريزا ماى"، بلا نياشين ولا رُتب ولا ألقاب عسكرية...!، ولكن لديها من الشجاعة والشعور بالمسئولية والقدرة على أن تمنع مثل هذا العبث الإجرامى، الذى جرى فى مقرّات جهاز مباحث أمن الدولة المصرى.. فهى تعلم أن حرق وثيقة واحدة فى إدارتها دون أن تتخذ إجراءً فوريًّا وحازمًا ضد المذنب سيؤدى إلى أن تفقد هى وظيفتها.. بل مستقبلها السياسى كله..." (انظر مقال: "قطار الثورة وجهاز قمع الشعب").
وفى ٢٨ من فبراير عدت إلى نفس الموضوع من زاوية أخرى فكتبت: "ولسوف تشهد البلاد كوارث من كل صِنف ما لم يوضع حد لهذه المهزلة"؛ فهناك آلاف من ضباط مباحث أمن الدولة... لهم علاقات وثيقة ببؤر الإجرام والبلطجة فى أنحاء البلاد... ولديهم مفاتيح وبِطاقات هوية مزوّرة.. ومعلومات عن كل موقع.. ويعرفون البلاد (زنقة زنقة وشبر شبر).. ولهم رصيد عند أصحاب الثروة المنهوبة (من الشعب)، والذين يشاركونهم فى الشعور بأن وجودهم جميعًا ومستقبلهم أصبح على كف عفريت...!".
ثم أضفت: "لقد اقترحت وضع هؤلاء جميعًا فى معتقلات مؤقتة رهن التحقيق.. فمَن تثبت براءته يُفرج عنه فورًا.. فإذا كانت سجون وزارة الداخلية غير مؤمَّنة.. فالسجن الحربى أكثر أمانًا.. فإن لم تفعل السلطات الحاكمة هذا وبأسرع وقت .. فلا ينبغى أن تلوم إلا نفسها...!"، انظر مقالى بعنوان "بين الهموم والإنجازات".
إن إبقاء الحال على ما هو عليه فى وزارة الداخلية خطر على الثورة وعلى الشعب، وخطر داهم على العملية الديمقراطية برمّتها.. وأنا على يقين أن أى حكومة قادمة ستكون هى نفسها - مع رئيس الدولة المنتَخب- فى خطر مؤكد ما لم تأتِ معها بحلول ناجزة لهذه المعضلة.. فلن تستطيع حكومة ما أن تنفّذ مشروعًا أو برنامجًا إصلاحيًّا مما تحلم به.. ولن تستطيع أن تنفّذ القانون لتردع المجرمين والبلطجية وتعيد الأمن إلى الشارع المصرى، ولن تستطيع أن تُجرى محاكمات جادة للمجرم المخلوع وأركان نظامه.. لن تستطيع أن تفعل شيئًا من هذا معتمدة على هذه الوزارة بحالتها المتردّية..
إن تنفيذ أى مشروع إصلاح أو تنمية بشرية أو إقتصادية يحتاج إلى إعادة الأمن إلى ربوع مصر، ولن يعود الأمن، ولن يتم تنفيذ القانون إلا بأيدٍ نظيفة وأمينة توفرها وزارة الداخلية.. ولن تستطيع وزارة الداخلية القيام بهذه المهمة ما لم يتم تطهيرها من بؤر الفساد ومن الجنرالات الذين يديرون هذه البؤر من قلب الوزارة.
أما أولئك الذين يحلمون والذين لا همََّ لهم إلا الحديث عن تطبيق أحكام الشريعة، فعليهم أن يستيقظوا من أحلامهم؛ ليدركوا الواقع على حقيقته.. ويعملوا أولاً على علاج المعضلات الأساسية التى تعوق عودة حياة الناس إلى سيرتها الطبيعية فى العمل والإنتاج والعيش فى أمن وسلام.
أذكر قصة قديمة على لسان صديق التقى فى صيف أحد الأيام بالشهيد "سيد قطب" فى أيامه الأخيرة، وسأله: لو بيدك الأمر الآن هل تقوم بتطبيق الشريعة؟!، فكان جواب الرجل الملهم: كيف يمكن تطبيق الشريعة وجهاز الشرطة الذى سيتولى تنفيذ الأحكام على هذا المستوى من الفساد المستشرى..!، هل ينفّذ أحكام الشريعة هذا الشرطى المِسكين الذى ينشر مِنديله؛ ليأخذ كيلو خيار رِشوة من بائعة الخضار...؟!، ولو عاش سيد قطب ورأى ما رأيناه لقال أيضًا: هل ينفّذ أحكام الشريعة ضباط فى الشرطة، ينافسون تجار المخدِّرات فى تزويد مئات الأكشاك المنتشرة فى أرجاء القاهرة (ويقومون بحمايتها)، خصوصًا حول الأندية الرياضية والمدارس.. حيث يجتمع مئات من الشبان الضائعين يدخنون الأفيون والبانجو على قارعة الطريق..؟!.
هل ينفذ أحكام الشريعة أو أى قانون آخر أناس تخصصوا فى جمع الإتاوات من بائعات الهوى.. ومن الباعة الذين يضطرون لعرض بضائعهم على الرصيف، فى شارع خالد بن الوليد بالإسكندرية.. وفى ميدان الجامع بمصر الجديدة.. وفى الشوارع التجارية ببور سعيد...؟!
إن القضاء النظيف هو مناط تطبيق العدل فى أحكامه.. ولكن تنفيذ الأحكام منوط بوزارة الداخلية.. ولن يتحقق العدل فى مصر ولا الأمن والاستقرار ولا التنمية إلا بتطهير هذه الوزارة.. واستئصال جهاز أمن الدولة منها.