/>

دماء غالية وإعلام رخيص! بقلم: محمود القيعي




إذا كان الشاعر العربي القديم قد اعتبر أن : جراحات السنان لها التئام.. ولا يلتام ما جرح اللسان،فإن كلا الجرحين كان لمعتصمي ميادين رابعة والنهضة والألف مسكن منهما أوفى نصيب.

فعلى مستوى جرح السنان، لاقوا ما لاقوا من قنص وضرب بالرصاص الحي والخرطوش وقنابل الغاز ما لا يتحمله المقاتلون في أعتى ميادين القتال ، ومع ذلك فقد استمروا- ولا يزالون- في معركتهم من أجل كسر الانقلاب الدموى الذي أعاد مصر إلى عصر الفاشية والديكتاتورية.

وعلى مستوى جرح اللسان، فلم يكتف الإعلام المصري بالصمت على المجازر التي وقعت ضد متظاهرين عزل لا يملكون إلا صدورهم العارية ، وأصواتهم المبحوحة ، وإرادتهم الصلبة، وإنما سلقهم بألسنة حداد عبر إعلاميين فقدوا إنسانيتهم قبل أن يفقدوا مهنيتهم، ونالوا منهم بالتشويه والتزييف وقلب الحق باطلا والباطل حقا، حتى مسحوا عقول عامة الشعب بأكاذيبهم .

وإن تعجب فعجب من إعلام لم يتوقف لحظة عن مهاجمة الرئيس مرسي بالحق والباطل وبمناسبة وبدون مناسبة، واعتبر أحدهم أن سب الرئيس واجب وفريضة، ومع ذلك لم يتعرض لهم أحد،ولم يغلق منبر واحد من هذه المنابر التي تتبع أهواءها، في الوقت الذي يسبح الإعلام المقروء والمسموع والمرئي بحمد السيسي وحكم العسكر، ولم نر أو نقرأ كلمة نقد واحدة لهم.

أزمة مصر الحالية أسقطت كل الوجوه، وكشفت جميع الأقنعة عن الذين ملأوا الأرض حديثا عن الحرية والليبرالية وهم خلو منهما ومن مبادئهما.

نذكر لمحمد البرادعي نائب الرئيس أنه قال عند قتل اول متظاهر: إن شرعية الرئيس مرسي قد سقطت، ولم نسمع له صوتا، ولم تراوده فكرة الاستقالة إلا متأخرا جدا رغم ما رآه من سقوط المئات في مذابح يندى لها الجبين الحر.

نذكر للبرادعى كذلك أنه كان يعتبر توجيه تهمة إهانة الرئيس من سمات النظم الاستبدادية،و لم نره يتفوه بكلمة ونحن نرى ونسمع أن من سيتعرض للرئيس بالاهانة، سيغرم نحو ثلاثين ألف جنيه! أوليس هذا كيلا بمكاييل كثيرة؟!

نذكر لحازم البببلاوى رئيس وزراء الانقلاب أنه عندما كان وزيرا في حكومة عصام شرف( حكومة ثورة يناير) استقال فورا احتجاجا على مقتل عدد من الإخوة الأقباط أمام ماسبيرو، ولكنه صمت صمتا مخزيا وهو رئيس الحكومة، ولم يطرف له جفن وهو يسمع ويرى سقوط المئات .

الفريق السيسي عندما دعا إلى الشعب إلى الخروج للشارع من أجل إعطائه تفويضا لمحاربة الإرهاب( ولم يحدد أى معنى للإرهاب) قال إنه سيؤمن المظاهرات( بجد) فلماذا لم يؤمن المظاهرات على الجانب الآخر وتركها فريسة للبلطجية والمجرمين حتى وقع هذا العدد الهائل من الضحايا؟!

كتاب كثيرون وصحفيون كنا نعدهم من الأخيار لم تستوقفهم المذابح، ولم تهزهم الدماء،فلم يكتبوا عنها كلمة ، ولم يسطروا عنها حرفا، فسقطوا سقوطا إنسانيا مهينا.

معتصمو رابعة والنهضة- وهم كل شعب مصر وليس الإخوان فقط- يشهد كل من زارهم من المحايدين والمتعاطفين والناقمين أنهم من أرقى وأشرف المعتصمين ، أوليسوا هم الذين افترشوا الأرض- هم أطفالهم وزوجاتهم- ما يقارب الشهرين، متحدين الجوع والعطش وأشعة الشمس ودرجة الحرارة التي تقترب من الأربعين، وقبل كل هذا متحدين الحرب النفسية الرهيبة التي هددتهم في أرواحهم وأرواح أطفالهم ونسائهم، ولم يبرحوا الأرض – ولا يزالون- حتى تتحقق مطالبهم التي لا نغالى إذا وصفناها بالعادلة.

الذي زار اعتصامي رابعة والنهضة – وكاتب هذه السطور واحد منهم- يشهد بأنه رأى المجتمع الإسلامي الذي نرجوه لأمتنا، حيث الإيثار والرحمة والتعاطف والتواد، والاحترام المتبادل بين الكبير والصغير ، وغض البصر وكف الأذى.

الذين يكابرون في عودة الرئيس مرسي يقولون إنهم أسقطوا الرئيس مرسي بالحشود ( ونعلم أن منها فلولا وفاسدين وكارهي الإسلام وبلطجية ، وقليلا من الشرفاء)، ولكن ها هي الحشود على الجانب الآخر من الكثرة بمكان تنادي بعودته، وتصر عليها، فماذا عسانا أن نفعل؟

مصر الآن بحاجة ماسة إلى التواضع ، وترك الكبر، واستشعار خطورة اللحظة، والعودة إلى آليات الديمقراطية التي انحرفت عنها بانقلاب دموى جر على مصر من الويلات أكثر مما جلب لها من الخيرات.

*نائب مدير تحرير الاهرام




التعليقات
0 التعليقات