/>

"حصنّي يا معلم"! سليم عزوز



عندما فعلها الرئيس محمد مرسي، نفروا خفافاً وثقالاً، وغدوا خماصاً وبطاناً، وعندما فعلها الذين من دونه، صمتوا وكأن علي رؤوسهم الطير، " بل ران علي قلوبهم".

مرسي سبق له أن أصدر إعلاناً دستورياً تضمن تحصين قراراته من الطعن عليها أمام القضاء، فإذا بالبنت وأمها ( كناية عن الاحتشاد) يخرجن ضده، وإذا بالمظاهرات تجعل من محيط قصر الاتحادية، وكأنه حشد قتال، وإذا بخصومه يعلنون أنه بهذا " التحصين" يجعل يصنع من نفسه ديكتاتوراً، والبعض لا يزال إلي الآن يصف مرسي بالاستبداد، وهناك من " أخذتهم الجلالة" فوصفوه بأنه هتلر.
وعلي ذكر المذكور "هتلر"، فقد فزعت دوائر الانقلاب لوجود أحد الصحفيين المسيحيين ضمن رافضي الانقلاب العسكري وهو زميلنا رامي جان، فكانت الدعاية المضادة ضده، بأنه عضو في الحزب النازي في مصر، مع أنه لا وجود لهذا الحزب في "المحروسة"، ومع أن رامي ليس عضواً في أي حزب، ولو حزب "البطيخ" والذي يطلقون عليه في تونس " الدلاع"!.
عندما " حصن" مرسي قراراته، كان مضطراً، والمضطر كما ورد في الأثر يركب الصعب، لأنه رأي تربص القضاء به، ولا أذيع سراً الآن إذا قلت أنه كان من المستهدف أن يطاح به بحكم قضائي، سيوصف حينها بأنه عنوان الحقيقة، وعلي قاعدة أنه لا أحد يتدخل في أعمال القضاء المصري " المستقل والشامخ"، مع أن انتفاضة قضاة الاستقلال قبل ثورة يناير كانت من أجل تحقيق استقلال القضاء غير المتحقق، لكن هناك من نسوا ما ذُكروا به!.
مرسي في الواقع حصن المحصن، فقد استدعي الفقيه الدستوري الكبير عبد الرازق السنهوري نظرية أعمال السيادة من فرنسا، إذ جامل بها مجلس الدولة هناك نابليون بونابرت، علي جميله بتأسيس قضاء مجلس الدولة، وهو يشمل كل قرار يصدره الرئيس بصفته سلطة حكم، وقد تم إهداء هذه النظرية للرئيس عبد الناصر، وصار عليها القضاء المصري بدون أن يكون منصوصاً عليها في القانون، أو في الدستور، فصارت قاعدة قانونية وليدة اجتهاد لا نصوص، وجري التوسع فيها حتى صارت تعبيراً عن كل ما يصدره رئيس الدولة من قرارات!.
نظرية " أعمال السيادة" جرى إعمالها مع كل رؤساء مصر، فالرئيس الوحيد الذي تجرأ القضاء وتصدي لقرارته كان هو الرئيس محمد مرسي، وذات المحكمة التي قررت أن قرار رئيس الجمهورية، الذي هو حسني مبارك، بفتح باب الترشيح للانتخابات البرلمانية من " أعمال السيادة" وثم لا يخضع لرقابة القضاء، هي نفسها التي تصدت، وألغت قرار رئيس الجمهورية، الذي هو الرئيس محمد مرسي، بفتح باب الترشيح للانتخابات البرلمانية. وتبين أنه كانت هناك محاولات مستميتة من أجل ألا تجري هذه الانتخابات، لأن النية انعقدت علي الانقلاب علي الرئيس المنتخب!.
لقد قوبل الإعلان الدستوري بمظاهرات حاشدة، لأن الرئيس حصن فيه قراراته، بما لا يتسق مع قيم دولة القانون ، وقد اختفي هذا البعض الآن في ظروف غامضة علي الرغم من أن " التحصين" صار منهج حياة!.
فقد جرى تحصين الرئيس المعين في موقعه، ولأنه الفترة الانتقالية تقرر أن تطول تم النص في مشروع الدستور الذي تضعه لجنة الخمسين " المعينة" بقرار من "الرئيس المعين"، علي أن الرئيس يظل في موقعه إلى حين انتخاب رئيس جديد، وكان من المقرر أن تكون الفترة الانتقالية هي ستة شهور، ولا يلوح في الأفق ما يؤكد أن هذه المرحلة ستنتهي قريباً!.
كما جرى " تحصين" أعمال كل عناصر الحكومة وليس الرئيس فقط، من رقابة القضاء، من خلال التشريع الذي أصدرته السلطة التنفيذية، ممثلا فيما عرف بقانون " حسن النية"، وهو ألا يؤاخذ وزير أو الحكومة كلها بإجراء مدان قانوناً، ما دام الدافع له هو " حسن النية"، وما دامت النية محلها القلب، وما في القلب لا يعلمه إلا الله، فان كل قرار وإن جار علي الحق لا يمثل جريمة، إذا ما قيل أن من أصدره كان مدفوعاً بحسن النية!.
ثم كانت الطامة الكبرى عندما جري " تحصين" الفريق أول سامي عنان وزير الدفاع، وجعله فوق رئيس الدولة، فهو وزير لا تسري عليه القواعد العامة في العزل والاختيار، فإذا كان النظام النيابي يعطي للحزب الحاصل علي الأغلبية الحق في تشكيل الحكومة، فإنه ليس من سلطة هذا الحزب أن يعين وزير الدفاع، وإذا كان من حق الرئيس المنتخب في النظام الرئاسي أن يعين الحكومة، فان بإمكانه في الحالة المصرية أن يعين كل الوزراء عدا وزير الدفاع. وإذا كان من حق البرلمان المنتخب أن يستجوب الوزراء ويعزلهم، فإن منصب وزير الدفاع أكبر من أن يستجوب من قبل الشعب، باعتبار أن نظرية الشعب صاحب الإرادة منقوصة في مصر لأنها لن تشمل وزيراً بعينه هو وزير الدفاع الذي هو أكبر من الشعب، وأعلي قدراً.
النص الدستوري جاء ليحصن منصب وزير الدفاع في موقعه لدورتين، مدتهما ثماني سنوات، بعدها وليس قبلها فإن من بيده " عقدة النكاح"، أي ولي الأمر، هو المجلس الأعلى للقوات المسلحة!.
لقد تعطف مشروع الدستور على رئيس الدولة المنتخب، وجعل من حقه إقالة وزير الدفاع في أي وقت، لكن ليس من حقه تعيين وزير جديد، والمعني أن من حق الرئيس إقالة الفريق السيسي، ليكون من حق المجلس العسكري إعادة تعيين الفريق السيسي وزيراً للدفاع من جديد!.
وهذا اختراع مصري خالص، ان شئت الدقة فقل إنه اختراع خاص بالانقلابيين في مصر، لم يسبقهم إليه أي من الذين وضعوا نظريات العلوم السياسية، ليجعلنا هذا أمام فرع جديد في العلوم السياسية تأسس حديثاً، هو فرع " العلوم السيسية"، وهو اصطلاح للدكتور سيف الدين عبد الفتاح!.

ومع تقديري للاختراعات العلمية الجديدة، فقد أدهشني ان الذين خرجوا من قبل وشقوا عصا الطاعة في حكم الرئيس مرسي لأنه حصن قراراته، وباعتبار أن هذا يهدم دولة القانون، لم يتحرك فيهم حاجب، ليس من باب الاستنكار وإنما بدوافع الدهشة، إزاء هذه " التحصينات الجريمة"، والتي تمثل انتهاكاً لعرض الدولة المدنية في الطريق العام، بعد أن صار شعار حكومة الانقلاب " حصني يا معلم" علي طريقة:" اذبحني يا معلم.. قطعني.. قطع قطع.. وارميني في الزيت".

يا لها من نخبة فاسدة.

*كاتب وصحفي مصري

التعليقات
0 التعليقات