بعد أن مالت شمس الحياة إلي الغروب ، ووسط الإحباط والألم فوق الألم ، وضياع الأمل وراء الأمل 0 بزغت شمس الخامس والعشرين من يناير2011 ، وهبت نسائم حرية حقيقية ولو وليدة تسعدنا خطواتها الأولي 000 نسائم استشعرت فيها أنني لن أودع الحياة كمدا 0وأنه آن لنا كمصريين أن نحيا أحرارا كراما أعزاء0
ولأول مرة000 وأنا في الخامسة والخمسين من عمري 00اسعي خفافا فرحا أدلي بصوتي في انتخاب رئيس الجمهورية ، واستفتاء دستور2012 0 أحسست حينها أنني فعلا حي يرزق 0 معني جديد للحياة 0 احساس جديد لمفهوم الانسانية0 لا أبغي الاستطراد في وصفه لأنه فوق أن اللغة لا تكفي بيانا لروعته وعمقه ودفئه 000 فقد زال سريعا كسحابة صيف ، وحلم جميل00 لقد دهسه الانقلاب العسكري الدموي فصار الاستطراد في وصفه ــ وقد أصبح قبض الريح ــ عبثا ومؤلما وموجعا 0 وبات المرء الحليم لا العجول حيران ، وغاب خالد والقعقاع ، وسبيت فاطمة وأسماء ، واندلعت النيران ، وسفك الدم ، وأمست حماس عدوا ، ونتانيهو صديقا ، فصارت الموازين مقلوبة ، وأبهمت السبل ، وران علي أغلب الناس وإن ضحكوا الحزن والهم والغم 0
وبعد أن زيف الوعي بقصف إعلامي افاك أثيم ، كان ومازال معول هدم وتفرقة وشحناء ، وبعد أن اند رست بفعل بعض القادة التخوم بين الجيش والسياسة ، بما أضر بالصورة المقدسة الجليلة التي كانت للجيش ، وبعد أن انخرط العديد من رجال الشرطة دون تجمل حتى الآذان طرفا في الصراع السياسي ، بما سيكون له حتما مردود سلبي علي دور الشرطة ولأمد طويل ، وبعد أن أضاع بعض من القضاة وأعضاء النيابة سمعة القضاء 0وبعد أن أثبت قادة الأزهر والكنيسة أن الدين سياسة ، والسياسة دين ، وبعد أن اعتقلت وأخرست وهددت000 لا 00جاء استفتاء الانقلاب بالدف والرقص والغناء علي العذابات والأشلاء00واغتصبت000 نعم 0
اغتصبت00 نعم00 في مشهد يذكرنا بالفتاة التي تكره علي الزواج بمن لا تريد 0وجميع من حضر العرس ، حتي العريس ، والشهود ، والجوقة الموسيقية ، ومن عقد العقد ، وفرش النمارق ، وأعد المسرح والمخدع 0 يعلم أنها مكرهة، والجميع عداها يبتسمون ويرقصون ويغنون وينافقون ويكذبون ، ويتحركون كالصرصار المقلوب علي ظهره يحرك أرجله عبثا في الهواء ، ويؤكدون أنه متي أبرم العقد ، وزفت العروس فكل شئ علي ما يرام ، وكل شئ بخير مع أنهم متأكدون في الوقت ذاته 0 أن بيت العروسين هو بيت البغضاء والشقاق ، وأنهم زرعوا شجرة البؤس ، وأن تحت الرماد تتلظي نيران ، وأن الفراق في الأغلب الأعم واقع عاجلا أو أجلا طوعا أو كرها 000 ولا تجد العيون حينها سوي الدم لا الدمع تذرفه كمدا علي العروس 0
اغتصبت نعم 00وعاد الألم فوق الألم ، واستدعت الذاكرة الذكري التي لم تغيب 0 ذكري انتخابات واستفتاءات ما قبل وما بعد الخامس والعشرين من يناير0 ذكري التزييف والتزوير والتهريج والتضليل والرقص والتطبيل ، وذكري نزاهة وأمانة وشفافية ، لم يطق المبطلون مقامها بينهم ولو قليلا0 ذكري الأمل ونسائم الحرية التي زالت مع دخان قنابل الغاز والخرطوش والرصاص الحي ، وأمواج الكراهية والبغضاء 00وعلي قدر ما كان الأمل عظيما 00 كان الألم أعظم 0
اغتصبت نعم 000 وماذا بعد 000هل يصلح التعايش بالقهر والإذعان والاستسلام والاستذلال 0هل تنهض أمة بالجور والظلم والعسف، والدف والرقص والأغاني 0وهي تعيش علي أجهزة تنفس الصدقات ، ومحلول الجفاف ، وهذا حالها الذي لا يخفي !!
ولله دره الراحل مكرم عبيد حين قال { أن كل ظلم مهما كان فردياً فهو ظلم مزدوج 00 ظلم واقع علي فرد ، وظلم يهدد المجموع 0 فهو إذن فعل وتهديد ، وواقعة وسابقة }
والواضح لكل من له قلب والقي السمع وهو شهيد أن الظلم شديد 0وهناك من لا يؤمنون إلا بالقوة ، والقوة فقط ، ولا يرضون من شعب أعزل إلا برفع رايات الاستسلام لما فعلوا ويفعلوا 00وهيهات هيهات00 بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 أن يحدث 0
وهل يمكن أن يظل الأعزل أعزلا إلي الأبد 0 وهل سيسامح وكيف ومتي ؟ وهل يقتل الرصاص الأفكار والمعتقدات ؟ وهل حدثنا التاريخ بغير ذلك ؟ وهل غاب الاله الحق جل في علاه ؟
لا يتصور ولا يعقل أن حاكما لا ينظر إلا للمؤيدين له ، ويسحق المعارضين ، بربكم دلوني من التاريخ وسنن الله في الكون علي أن من فعل ذلك نجح وأفلح 0 ودلوني علي حاكم رضي عنه الجميع 0 هذا من سنن الحياة التي يتجاهلها البعض 0 والضحية هو الوطن 0
أن مثل هؤلاء لا يؤمنون حقا بحريات 0 والمطلوب أن يصمت الجميع ، أن يعقل الخوف الألسن ، أن تنحني الهامات ، أن يضع المرء رقبته في سلسلة العبيد ، أن يقرع بالعصا , أو ترمي له جزرة ليقفز كالقرد مسبحا بحمد السيد 0
مثل هذه الحاكم الذي ينتهج القوة سبيلاً، ولا يلتزم بالقانون ، يفتح أبواب العصيان والانهيار وكافة صور المقاومة والاحتجاج ، ناهيك عن فقدانه المشروعية ذاتها 0
ولم يثبت أن هناك خيراَ في حكم يؤمن بأن القوة هي السبيل لحكم الناس ، لأن بذلك لا يمكن أن يحدث أي تقدم حقيقي في البلاد 0فالقهر والظلم يفرخ العجز والنفاق والغش ، ويقتل الانتماء والإبداع 0الانتماء الذي يحصن المجتمع الداخلي في مواجهة أي عدوان خارجي ، ويستنهض مع الإبداع كل الطاقات الدافعة لرقي الوطن وتقدمه 0
والمدهش أن رب العزة لا يعاقبنا فورياً إذا انكرنا وجوده ، إذا كفرنا به0 لكن الآن يعاقب أفراد النظام الحالي فورياً من لا يقبل بفعلهم ، أنهم لا يرضون من المصريين سوي بسلوك واحد أحد هو الإذعان ، وقول واحد أحد هو نعم نعم 0 أو الصمت والانكسار والخنوع 0
لا يقبلون بلا 0لا يقبلون بأحرار، لا يقبلون بكرام لا يقبلون بأعزة 0 حتى أنهم يعادون لا الأشخاص فحسب بل يعادون الدول وزعماء الدول التي لم تعترف بانقلابهم 0
ولا 00قد تكون ـ جدلاً ـ اجتهادا خاطئاً 0 لكنها رأي من حق المرء أن يقوله 0 وإذا كان هذا شانها مجرد رأي 0فلماذا يخافون منها ؟ ويتعقبون قائلها ؟ ألا يدل ذلك علي أنها الحق ؟
أنهم يعاقبون فورياً كل من هو ضد الانقلاب ،ولا أفهم أن يسعد إنسان بحكم العبيد والجواري !! أين الفخار في هذا؟ أين العزة في ذلك ؟ أن شرف الإنسان ومصدر عزته وفخره أن يوليه الله حكم أحرار مرفوعي الرأس والجباه ، لا عبيداً أذلاء خائفون مرتعبون 0أين السعادة في حكم العبيد والأذلاء والمنافقين والمنبطحين والخائفين والكذابين ؟
أن عظمة الإنسان لا تقاس إلا بهمته ومرؤته وعلو نفسه وعدله سيما مـــع المخالفين له، لا بسحقهم والتنكيل بهم 0فلا ولن يصلح حاكما إلا من أدرك أنه لن يكون عظيما إلا بقدر ما تكون أمته عظيمة ، ولن يكون حرا إلا بقدر ما تكون أمته حرة ، ولا آمنا إلا بقدر ما تكون أمته آمنة
والأمة بعد أن اغتصبت نعم00 ما زالت وستزال في قلب خطر داهم عظيم ، والجميع يعلم ويدرك ذلك 0 وإن لم يبدأ الآن وليس غدا إنقاذ البلاد والعباد بحوار جاد مخلص عادل 0 بين قوم يحبون الله ويحبهم الله0 قوم أمناء أقوياء ، يترفعون عن الصغائر والمغانم ، ويعملون بما يعلمون حقا من أن كل شئ زائل0صانع العرش والواقف أمام العرش والجالس علي العرش ، كلهم حفاة عراة تراب ، وأنهم إليه راجعون 0ويعلمون أن الدم دم ، والنفس نفس ، والقصاص حياة 0 فلن تمحي بسهولة ويسر من البصر والذاكرة مجازر الحرس الجمهوري، والنصب التذكاري، ومجازر ومحارق رابعة والنهضة ، ومصرع الشباب والشبيبة في الطرقات0 وهتك أعراض الفتيات ، ودموع اليتامى والأرامل والثكالي ، وعذابات المعتقلين والمعتقلات وأسرهم ، وحرق المساجد ، وكل هذه الشماتة والفرحة الحمقاء المقززة 000 وغير ذلك من جرائم وأفعال يندي لها جبين كل حر لم يسلك رقبته في سلسلة العبيد 0
ولن تمحي من البصر والذاكرة صور بعض جيش مصر وهو يهرول في الطرقات بما لا يليق بجلاله ، وهو يرفع ويطلق السلاح علي شعب مصر ، وكأن بالذراع اليمني تحارب الذراع اليسري في جسد واحد 0 أم أن الكلمة الخبيثة النتنة صارت حقا 000 أن الذراع اليمني شعب واليسري شعب !! ولهذه رب ولتلك رب !! ولا حول ولا قوة إلا بالله 0
ولن تمحي من البصر والذاكرة صور العديد من رجال الشرطة وهم يفترسون الناس ، ويطلقون النار عليهم ، ويسحلونهم علي الأرض 0ويهتكون الأعراض ، بتشفي ظاهر واضح ، لا يخلق إلا في شعب جديد أبي سوي بركان عداء في الصدور ، لا يعلم الله متي وكيف سيرسل لهبه وحممه 0
ولن تمحي من الذاكرة الصورة القاتمة التي رانت علي القضاء 0 الذي صار مضغة الأفواه 0
ولن يمحى من البصر والذاكرة إعلام جوبلز ، وسجاح ، وحمالة الحطب ، ومسيلمة الكذاب0
ولن يمحى من البصر والذاكرة كل هذا التشرذم والشقاق والانقسام والكيد والسب والشماتة والتربص والظلم والعدوان 0والغم والهم والحزن 0وكل هذا بعض بضاعة الانقلاب 0 وحينها فليقض الله أمرا كان مفعولا وإليه ترجع الأمور0
المستشار / محمود محيي الدين
نائب رئيس محكمة النقض