عبد السلام البسيونى | 12-03-2012 15:10
(عشنا وشفنا) مستعمرين وطنيين أخطر على أممهم من المستعمرين الأجانب.. نزحوا أموالها، وجرفوا خيراتها، ودمروا هويتها، وأذلوا أهلها، وملأوا بالوطنيين سجونها، وجعلوها عزبة خاصة لهم ولخاصتهم من أشباههم من المرابين واللصوص والفهلوية والعملاء.
وعهد الأمم الحية بالملوك والرؤساء الصادقين أن يكونوا خدمًا لبلادهم، ساهرين على أمنها ومصالحها، وحقوقها وحقوق أقل واحد فيها، فى الإحياء للغزالى أن أحد الرعية وعظ الخليفة أبا جعفر المنصور؛ فكان مما قال له: قد كنت سافرت إلى الصين يا أمير المؤمنين، فقدمت مرة، فوجدت الملك الذى به قد فقد سمعه، فبكى، فقال له وزراؤه: ما يبكيك أيها الملك؟ ما لك تبكى لا بكت عيناك!
فقال: أما إنى لست أبكى على المصيبة التى نزلت بى، ولكن أبكى لمظلوم، يصرخ بالباب، فلا أسمع صوته! ثم قال: أما إن كان قد ذهب سمعى فإن بصرى لم يذهب! نادوا فى الناس ألا لا يلبس ثوبًا أحمر إلا مظلوم، فكان يركب الفيل، ويطوف طرفى النهار؛ هل يرى مظلومًا فينصفه، وهذا الأمير رجل مشرك غلبت عليه رأفته على شح نفسه بالمشركين، وأنت مؤمن بالله، ورسوله وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى أبو جعفر المنصور رحمه الله.
ويحكون عن عمر رضى الله عنه قوله: لو عثرت بغلة فى العراق لسألنى الله تعالى عنها: لِمَ لَمْ تمهد لها الطريق يا عمر؟!
وعهدنا بحكام ومسئولين كبار إذا أصاب سيرتَهم شىء من الشين، أو ظنوا أن تقصيرًا بدر منهم، أو أنهم ليسوا مطيقين لحمل الأمانة، استقالوا شعوبهم، وخرجوا من الأمر؛ نجاة بأنفسهم من التبعات، أو واضعين أنفسهم أمام القضاء.
لما بويع أبوبكر الصديق صعد المنبر فنزل مرقاة من مقعد النبى صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال إنى وَليت أمركم ولست بخيركم، ولكنه نزل القرآن، وسنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.. إنما أنا متّبع ولست بمبتدع فإن أحسنت فأعينونى وإن زِغت فقوّمونى..
ولما بويع عمر بن عبد العزيز بالخلافة بعد وفاة سليمان بن عبد الملك - وهو لها كاره - أمر فنودى فى الناس بالصلاة، فاجتمع الناس إلى المسجد، فلما اكتملت جموعهم، قام فيهم خطيبًا، فحمد الله تبارك وتعالى، ثم أثنى عليه، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أيها الناس إنى قد ابتليت بهذا الأمر على غير رأى منى فيه، ولا طلب له، ولا مشورة من المسلمين، وإنى خلعت ما فى أعناقكم من بيعتى، فاختاروا لأنفسكم خليفة ترضونه!
فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك، فَلِ أمرنا باليمن والبركة.. فأخذ يحض الناس على التقوى ويزهدهم فى الدنيا ويرغبهم فى الآخرة، ثم قال لهم: "أيها الناس من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له على أحد، أيها الناس أطيعونى ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لى عليكم" ثم نزل عن المنبر!
ورأينا فى البلاد المستنيرة المتحضرة التى تختار حكامها خدمًا لأهلها، رؤساء يتنحون، ووزراء يستقيلون، وعساكر يبتعدون؛ إحساسًا بالمسئولية، وتقديمًا لمصلحة الأمة على أنفسهم!
ثم رأينا من (خير أمة أخرجت للناس) ومن (حماة الديمقراطيات والحريات، وممن رفعهم كلاب حراستهم إلى مستوى الإله – تبارك وتعالى - من يسحق شعبه، ويضربه بالدبابات والقذائف الثقيلة، ويغزو المدن بشكل لم يفعله الصهاينة ولا الهتالرة، ولا الفراعنة، على أساس أن الشعب خائن، لا يقدر تضحياته فخامته، ولا تاريخه النضالى العريق فى الممانعة والصمود والتصدى والمواجهة! ولا يقدر مواهب سيادته، فلا يستحق بذلك الحياة، ولا يناسبه غير السحل والسحق والفرم والقصف والتدمير وهدم البيوت على رءوس ساكنيها، كما يفعل هذا المبيد المبير السفاح ابن السفاح بشار، الذى تتجول دباباته فى المدن الخراب وتتناثر جثث أبناء شعبه لا تجد من يدفنها!
وإذا كان من سادتنا وكبرائنا من يكرهون الصلاة والدين كله، وإذا كان منهم من نذر نفسه لحرب الإسلام، والتفنن فى تقبيحه، والكيد لأهله، والتلفيق لهم، فقد كانت إمامة الصلاة فى الجماعة، وخطبة الجمعة فى ذمة الحاكم أو نائبه، يصلى هو بالناس، ويخطب فيهم، ويبلغهم بحقائق الأمور، ويسوس الدنيا بالدين، سن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء، والحكام من بعده، بل إن منهم – كالفاروق رضى الله عنه – اغتيل وهو يصلى بالناس.. بل إن ولاية الأمة كانت تسمى (الإمامة العظمى)!
ثم بات الدين مهجورًا، وباتت الدنيا تساس (بالمزاج) والفهلوة، وسهرات الأنس، والسمو الروحى، لتحل فينا قيم مدمرة، وتأخر قاتل، وتراجع حضارى شالٌّ!
وكان من المشروط فى الحاكم (الإمام/ الخليفة/ الأمير/ الرئيس/ السلطان) العدالة، فلا يعرف بمفسق، أو خارمٍ للمروءة، أو جرأة على الشرع، أو استباحة محرم، ثم حان علينا حين من الدهر وجدنا فيه شخصية كبيرة، تدخل على وزيرها متعجبة، قائلة فى استنكار: (تصور يا باشا: العيال السنية ولاد الـ.... بيقولوا الخمرة حرام!) ووجدنا الدول تنفق على قنوات مستبيحة، وأنشطة قبيحة، ورأينا السفارات تدير الخمر فى احتفالاتها، حتى صار بعض السفراء خبيرًا فى طعم الخمور، والتفريق بين جيدها ورديئها، يقول لزميل له وهو تحت طائلة السكر: (النوع اللى قدمه السفير فلان أحلى كثييييير من هالنوع)!
وكان من المشروط فيه: العلم الذى يستطيع به إدارة الدولة، والمحافظة عليها (بالمعنى الكامل للمحافظة) وسياسة الدنيا بالدين، والتمكين للقيم والأخلاق، ورعاية مصالح العامة، فإذا بعسكرى حدث يتولى أمر الأمة (كان القذافى 28 سنة عند توليه) بدون علم، ولا خبرة، ولا إمكانية على أى مستوى، يسوس الدنيا والدين والناس والأرض بهواه، ونزواته، وطيشه، و(شلته) المقربة التى تزين له الباطل، وتحطب فى حبال طمعه، ونرجسيته، وقصر نظره!