يتصور قادة الانقلاب وأتباعهم أنهم قد تمكنوا من السيطرة على مفاصل الدولة ، وأسكتوا صوت المعارضين لهم من إسلاميين وغير إسلاميين ، استنادا الى استخدام القوة المفرطة تجاه المتظاهرين ، الى حد استخدام الطائرات والمدافع والمدرعات ضد المدنيين العزل .
واستنادا الى وسائل اعلام محلية تمجد أفعالهم ، وتضع قائد الإنقلاب فى مرتبة عالية ، صورته على أنه المخلص لمصر من كافة مشاكلها المزمنة ، وتناسى ذلك الاعلام المضلل أن الناس قد جربوا حكم قائد الانقلاب خلال سبعة أشهر ، لم يتم خلالها حل مشكلة مجتمعية واحدة ، رغم الوعود البراقة والمعونات المتدفقة والتصريحات المضللة .
وتوهم قادة الانقلاب أنهم قد حصلوا على نسبة تأييد أكثر من 98 % ، وأن عشرين مليونا من المصريين يؤيدونهم ، متناسين بالطبع عمليات التسويد لبطاقات التصويت التى برع فيها أنصار الحزب الوطنى عبر عقود .
- وهكذا فمن يملك تأييد 20 مليونا من المصريين البالغين ، لا يمكن أن يعطل قطارات الصعيد من الوصول للعاصمة ، قبيل ذكرى ثورة الخامس من يناير خشية قدوم المعارضين لهم من الجنوب .
ومن يملك تأييد 20 مليونا ليس بحاجة الى إطالة أجازة نصف العام لطلاب الجامعات لشهر كامل ، ويمنع اقامتهم بالمدن الجامعية خلال تلك الفترة ، وبما يعنى صراحة وجود معارضة طلابية للانقلاب ، كما يطيل الانقلاب أجازة نصف العام لطلاب المدارس والمعاهد الأزهرية ، فى اعتراف صريح بامتداد الرفض الشعبى للانقلاب الى طلاب المدارس ، الذين لم يكونوا ضمن المعارضين للنظام عبر العقود الماضية .
- ومن يملك 20 مليونا من المؤيدين ليس بحاجة الى اغلاق الميادين الرئيسية أمام المتظاهرين وبالمدرعات ، والى أن تظل مدرعاته متواجده قرب الميادين الرئيسية رغم انتهاء حالة الطوارىء منذ منتصف نوفمبر الماضى ، كما أنه ليس بحاجة الى استمرار اغلاق محطتى مترو التحرير والجيزة ، طالما يملك تلك الشعبية الجارفة !
ومن لديه ذلك القبول الشعبى المزعوم لا يلجأ الى تشديد الأحكام بالسجن لسنوات لشباب وشابات ، لمجرد خروجهم فى مظاهرة أو لمجرد رفعهم لافتة او إشارة لرابعة ، كما أنه ليس بحاجة الى إيداع المعارضين له فى أقفاص من ثلاث طبقات : حديدية وسلكية وزجاجية ، حتى أن المتهم لم يعد مستطيعا سماع مرافعة دفاعه أو اتهامات النيابة له .
كذلك فهو ليس بحاجة الى تعدد القضايا المحالة الى محاكم الجنايات لنفس المتهمين ، للحصول على أحكام قاسية لتخويف من هم خارج السجون من المعارضين ، ونسوا أن المظاهرات الرافضة للإنقلاب لم تتوقف ، فى نفس الميادين التى شهدت مجازر دموية متكررة مثل الألف مسكن والمطرية وغيرها من الأماكن فى أنحاء البلاد .
- ومن يملك التأييد الشعبى لماذا يلجأ للبلطجية للتصدى لخصومه ، رغم استخدامه المعلن لكل امكاناته الشرطية والعسكرية ضد المتظاهرين ، وهو التصدى الذى أصبح يبدأ بالرصاص سواء من الخرطوش أو بالرصاص الحى ، وليس بالمناداة بالميكروفون ثم المياه ثم الغاز كما ينص قانون منع وتجريم التظاهر .
- ومن يملك ذلك التأييد الشعبى الكبير ، ويسيطر على كافة وسائل الإعلام مكتوبة ومسموعة ومرئية ، فلماذا ينزعج من صحيفة محدودة التوزيع مثل الحرية والعدالة ، ولماذا يعطل جريدة الشعب محدودة الإمكانيات المادية ، ألا تكفيه كل الصحف الحكومية والخاصة التى تبرر تصرفاته وتنشر الأكاذيب عن خصومه .
ولما يقوم بالتشويش على القنوات المعارضهة له والتى يتم بثها من الخارج رغم أنها محدودة الامكانيات ، ولماذا يستمر اغلاق القنوات الاسلامية منذ ليلة الانقلاب وحتى الآن ؟ ولماذا يقوم بإحالة 20 اعلاميا بقناة الجزيرة الى محمكمة الجنايات .
فكل ذلك يعنى فى تفسيره ، إما أن تلك القنوات لها نسب مشاهدة عالية ، وأن النظام الاستبدادى لا يطيق سماع أية وجهة نظر معارضة له ، وأن قنواته ووسائل اعلامه على كثرتها ، قد فقدت مصداقيتها بدليل أنها لم تستطع الاستحواز على عقول ووقت عموم المصريين ، رغم ارتفاع نسبة الأمية ، لكن اتساع رقعة الاستبداد جغرافيا وسع دائرة الرافضين للانقلاب .
- من المؤكد أن قادة الانقلاب وأتباعه يدركون اتساع مجال الرفض الشعبى لهم ، وأن المنتمين للتيارات الاسلامية لا يشكلون أكثر من حوالى 20 % من المتظاهرين الرافضين للانقلاب ، كما أن اتباع الانقلاب من التيارات السياسية والحزبية الذين جمع بينهم كراهيتهم للاسلاميين ، قد بدأ الشقاق فيما بينهم بعد اصرار قائد الانقلاب على الإنفراد بالحكم ، فلبعضهم أغراضا مماثلة ، واذا كانوا قد نجحوا فى تأجيل تصدع جبهتهم الى ما بعد اقرار دستورهم ، فإن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وتعارض المصالح خلالها ستحتم هذا التصدع .
وقادة الانقلاب يدركون من خلال تقارير الجهات السيادية ، عدم استنداد تلك القيادات الحزبية والسياسية المؤيدة لهم الى الأرضيه الجماهيرية بالشارع ، كما ساهم تأييدهم للانقلاب وسكوتهم عن المجازر والمحارق التى ارتكبها ، وسكوتهم عن اعلام الراى الواحد ، فى تآكل كثير من رصيدهم المحدود أصلا ، ولا ينسى قادة الانقلاب أن اجتياز كثير من هؤلاء الحزبيين للانتخابات البرلمانية كان عبر قوائم مرشحى التيار الاسلامى .
حتى حزب النور الذى أفرد اعلام الانقلاب له المساحات قبيل التصويت على الاستفتاء ، اتضح لهم عدم قبول القواعد الجماهيرية للحزب عن توجهات قياداته التى تحالفت مع الانقلاب ، فلم يشارك هؤلاء فى الاستفتاء وبما يشير الى رفض شامل للاسلاميين للانقلاب .
مما اضطره الى الاعتماد على وزارة الأوقاف لإضفاء المسحة الدينية لتصرفاته ، وتوحيد خطبة الجمعة لتوصيل رسالة محددة للناس ، فى مشهد معبر بوضوح عن مدى الحرية التى أصبح المصريون يتمتعون بها فى عهد الانقلاب ، حيث يتجه العالم الى التعددية ، ونحن نسير فى اتجاه معاكس لذلك !
- ومن الأوهام التى يعيشها الانقلابيون توهمهم بإمكانية تكرار تجربة السفاح عبد الناصر بالحكم بالحديد والنار ، وإعدام المعارضين وسجنهم لسنوات طويلة وصل بعضها الى 19 عاما متصلة ، وهو أمر لم يعد ممكنا استمراره فى ضوء المتغيرات الدولية ، التى ترصد بدقة كافة الجرائم والمذابح التى ارتكبها الانقلاب والتى سيأتى حتما يوم الحساب عليها .
الى جاب نسيان وجود جيل مختلف قام بثورة على حاكم كانت لدية كل أدوات البطش ، وشعب ذاق طعم الحرية ، وقدم بالفعل فيما بعد الانقلاب من أجلها آلاف الضحايا ، ومازال مستعدا لتقديم المزيد ، وهاهى أسر كثير من الشهداء والمعتقلين تعلن اصرارها على اكمال مسيرة المطالبة بالحرية رغم مالحق بها من ضرر فادح فى الأرواح والأعمال والممتلكات .
- مشهد آخر يدركه الانقلابيون وهو أن تناقص عدد الاحتجاجات الفئوية ، لا يعنى الرضا عن الانقلاب ، وإنما يعنى الخوف من بطشه ، حيث ذكر كثير من العاملين بجهات بها انتقاص لحقوق العاملين ، أن المتظاهرين فى السابق كانوا يرفعون لافتاتهم وصيحاتهم ويعتصمون فى خيامهم ، ثم يعودون الى بيوتهم بسلام ، أما الآن فالبطش والتنكيل يتم بهم من البداية .
كما نسى الانقلابيون أن اللجوء أحيانا لتدبير انفجارات فى بعض الأماكن قبيل الأحداث الكبرى ، أملا فى ايجاد موقف شعبى رافض تجاه المعارضين للانقلاب ، فإن رداءة سيناريو تفسير بعض التفجيرات وعدم حبكتها ، يجعل أثرها المرجو محدودا ومفضوحا ، كما أنها من ناحية أخرى تتسبب فى تطفيش السياح والمستثمرين مما يزيد من متاعب الاقتصاد ويزيد البطالة .
- أمر آخر قد لا يدركه الانقلابيون وهو أن قطاعا شعبيا رافضا للانقلاب ، يتظاهر بتأييده ، لدفع قائد الانقلاب لتولى موقع الرئاسة ، حتى يغرق فى المشاكل المزمنة من بطالة وفقر وعشوائيات وتدهور صحى وتعليمى ، ونقص للمرافق ومشكلة اسكان حادة وعجز مزمن بالموازنة ودين محلى وخارجى ضخم ، وميزان مدفوعات مختل يعتمد على المعونات وعجز مزمن بالميزان التجارى وغلاء طاحن ، ومجتمع غير منتج وعمال يطالبون بالأرباح رغم خسارة شركاتهم ، بحيث ينكشف أمام الناس وتزداد معدلات رفضه شعبيا .
لذا فإن لجوء الانقلابيين لتعجيل الانتخابات الرئاسية قبل البرلمانية ، سعيا نحو تأجيل تصدع جبهة الإنقاذ ووضع قائد الانقلاب على مقعد الرئاسة ، قد يبدو ظاهريا على أنه نجاح للانقلاب فى تثبيت أركانه ، لكنه من ناحية أخرى سيكشف الدوافع الحقيقية لقادة الانقلاب ، وسيكشف قدراتهم وخبراتهم الإدارية والتنفيذية المحدودة .
ولن تستطيع المعونات الخليجية أن تفى بالمتطلبات الحياتية للمصريين ، خاصة وأن الاعلام المضلل قد زاد التوقعات لدى الجمهور عن فيض العطاء ، الذى سيجلبه جلوس قائد الانقلاب على مقعد الرئاسة ، وتنوع وسرعة تدفق هذا الفيض .
وصدق الله تعالى حين قال " ان الله لا يصلح عمل المفسدين ".
Elwali.mamdouh@gmail.com